دولتان أم دولة واحدة؟
حركت تصريحات أحمد قريع (أبو العلاء) حول العودة لشعار الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين، مناظرة مهمة بين المفكرين والكتاب الفلسطينيين. وأعتقد جازماً أنها تستحق أن تكون مناظرة العرب بقية هذا العقد بشرط أقصى قدر ممكن من الوضوح السياسي والاستراتيجي بل والنظري أيضاً. وقد لا نفاجأ إطلاقاً إذا ثبت أن هذه المناظرة ليست في الحقيقة بين طرفين، أحدهما يفضل استمرار النضال من أجل دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967 والثاني يفضل استعادة فلسطين بكاملها. هي في الواقع اجترار واختبار للعقل السياسي العربي بكل تياراته وميوله المتناقضة واضطراباته ومحنته الصعبة أو رحلته المكوكية التي لا تنتهي بين المبدئي والتاريخي.
ويعني ذلك أن مفهوم الناس أو تصورهم لشعار الدولة الواحدة ليس شيئاً واحداً. فهناك من يرفض التفاوض أصلاً ويرى الحل العسكري سبيلاً وحيداً للنصر, وهناك من يريد التفاوض لكنه متشائم من أن يبقى شيء من الأرض للدولة الفلسطينية بعد أن يكون الاستيطان قد التهم كامل الضفة الغربية. وهناك المثاليون الذين لا زالوا ينظرون للصراع وكأنه تحريف إمبريإلي للتحالف المطلوب بين الشعوب بمن في ذلك العرب واليهود. وهناك العمليون المعادون للعروبة السياسية والذين يرون أن الدولة الواحدة هي أفضل حل للفلسطينيين ولو بقوا في وضع تابع داخل دولة هي في الجوهر يهودية، وهناك أخيراً من يهرب من أي اختيار بإقالة العقل السياسي بطرح فكرة تبدو ممكنة في المستقبل البعيد ودون تحمل لأية مسؤولية عن التفاوض حول أي شيء أصلاً.
ولا شك في تفوق شعار الدولة الواحدة، كما طرحته الحركة الوطنية الفلسطينية حتى عام 1974، مقارنة بشعار دولة على الأرض المحتلة عام 1967. فمن في الدنيا يفضل أن يعترف باستمرار بقاء إسرائيل من الأصل، حتى في صفوف الساسة العمليين أو الذين باعوا القضية؟ ومن يفضل أن ينشئ دولة على ربع الأرض إن كان من الممكن أن ينشئها في كل فلسطين؟ ومن يفضل أن ينشئ دولة ستعيش، إن عاشت أصلاً، تحت الظلال الكثيفة والكئيبة لدولة إسرائيل المدججة بالسلاح والمحمية أميركياً وغربياً؟ ومن يفضل أن ينشئ دولة هي بطبيعتها مأزومة من ناحية الجغرافيا السياسية وبلا موارد، وفي ظرف عربي مهترئ بشكل كامل؟
من الناحية المبدئية، يذكرنا كثيرون بأنه ليس هناك في الحقيقة أي فارق بين حيفا من ناحية ورام الله من ناحية أخرى، غير "توقيت" الاحتلال. ولو سلمنا بهذا العامل الزمني فما الذي يضمن استعادة رام الله بعد أن يمتد إليها الاستيطان كما امتد لحيفا؟ والعكس صحيح. فاستعادة رام الله مستقلة حقاً في أي وقت يعني أنه صارت لدينا القدرة على استعادة حيفا أيضاً ولو في وقت لاحق.
ومن الناحية المبدئية أيضاً فقد تعلق شعار الدولة الواحدة برؤية أخلاقية راقية، تقوم على المساواة بين العرب واليهود بصفتهما مواطنين أفرادا أو جماعتين "قوميتين" يحل النظام الديمقراطي خلافاتهما. وبذلك يثبت العرب أنهم ليسوا كارهين لليهود، وإنما هم رافضون للصهيونية. ولهذا شمل النضال من أجل الدولة الواحدة مهمة هائلة هي تحرير اليهود في فلسطين وربما غير فلسطين من الصهيونية.
لا شك إذن في تفوق شعار الدولة الواحدة. فلماذا انتقلت الثورة الفلسطينية إلى شعار دولة 1967؟
الأفضل أن نترك للمؤرخين شرح الملابسات التاريخية التي أدت لانتقال منظمة التحرير من شعار الدولة الديمقراطية العلمانية في كل فلسطين، إلى شعار دولة فلسطينية في الأرض المحتلة في يونيو عام 1967. ويبدو أن هذا الانتقال كان حتمياً وملازماً للتطور من الرومانسية الثورية إلى الواقعية النضالية في ظروف انتقال مواز للنظم العربية بعد رحيل عبدالناصر، من رفض لإسرائيل إلى قبولها في حدود 1948.
ولنترك مؤقتاً الذريعة التي استخدمت لتبرير هذا الانتقال، وهي استحالة ترك أي شبر من الأرض المحتلة يمكن استعادته. فالواقع -حتى في ذلك الوقت وقبل أن يتدهور الوضع العربي إلى المستنقع الحالي- لم يكن مواتياً قط لشعار الدولة الواحدة. وكان على الثورة الفلسطينية إما أن تخوض النضال وفقاً لنظرية الثورة الدائمة وبدون شعار تكتيكي محدد، أو أن تقبل بدولة على جزء من التراب الوطني.
وفيما وراء الظروف التي حكمت هذا الانتقال، فالمعيار الحاسم هو طبيعة الموازين الاستراتيجية الضرورية لتحرير الأرض المحتلة.
القائلون بدولة واحدة بالمفهوم الإنساني والثوري، يرون أن الموازين الاستراتيجية الضرورية لاستعادة الحقوق الفلسطينية على أي جزء من الأرض المحتلة هي نفسها الضرورية لاستعادة كل الأرض المحتلة. فليس هناك سبب وجيه لأن تسلم إسرائيل بعودة الأرض المحتلة عام 1967 إن لم تكن مضطرة لذلك، أي إن لم تتحول موازين القوى لصالح الشعب الفلسطيني بصورة جوهرية. ولو تصورنا أن بندول التاريخ بدأ يتحول لصالح الشعب الفلسطيني فسيكون من الممكن الاستمرار في الثورة الوطنية وصولاً لانتزاع كامل التراب الفلسطيني. وحتى لو كان ثمة فارق فسيكون مجرد فاصل زمني في مهمة تاريخية واحدة.
ولكن ثمة أكثر من نقطة ضعف في هذا المنطق. ولو انتظر الشعب الفلسطيني أن يتحول بندول التاريخ لما بقي في الأرض المحتلة شيء. وليس من الصحيح استراتيجياً أن الموازين الضرورية هي نفسها بالنسبة لاستعادة جزء من الأرض واستعادتها كلها. بل يقول المنطق إن إسرائيل قد تسلم فقط بإعادة جزء من الأرض المحتلة لقاء الاحتفاظ بالجزء الآخر. ومن ناحية ثانية فالمفهوم من تعبير موازين القوى الاستراتيجية ليس فقط البعد العسكري، بل أيضاً القانون الدولي وتوازن القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة والموازين السياسية الدولية والإقليمية، وحتى الجانب الأخلاقي والأيديولوجي البحت. ويؤثر هذا العامل الأخير على قطاع مهم نوعياً من اليهود في العالم، خاصة في أميركا الشمالية. بل ويمكن القول إن الصراع داخل "المجتمع اليهودي الأميركي" يشتعل حول رغبة ونضال قطاع ليبرالي وتقدمي من اليهود الأميركيين لتسوية القضية الفلسطينية بتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره على أرضه المحتلة عام 1967. ويبدو أن هذه التسوية ليست مدفوعة بالجانب الأخلاقي والأيديولوجي وحده بل وأيضاً بمصلحة هذا القطاع في الوصول لتسوية تاريخية في علاقة اليهود بغيرهم بما في ذلك داخل الولايات المتحدة ذاتها. وللأسف لم تتمكن الحركة الوطنية الفلسطينية ولا العرب عموماً من توظيف هذا الصراع لصالح قضيتهم.
أما من الناحية العسكرية البحتة، فالفارق كبير للغاية بين المهمتين. فالصهاينة قد لا يخوضون صراع بقاء حول الأرض المحتلة في يونيو 1967 لكنهم قد يذهبون لتدمير العالم كله إن تم تفكيك دولتهم في حدود 1948 بالقوة.
بل قد لا نفهم شيئاً من التاريخ اليهودي عموماً إن لم نميز بين نمط احتلالهم لفلسطين وكل الاحتلالات الأخرى، بما فيها احتلال البيض لجنوب أفريقيا. فالصهيونية ولو بالتعريف الشائع بين اليهود، ستعيش طويلاً وستنتج في الحد الأدنى أي مستوى من العنف والدمار الضروري للاحتفاظ بالجزء الأساسي من فلسطين الانتداب أي في حدود 1948. وهذا القطاع من الصهاينة الراغبين حتى في الوصول لتدمير العالم قبل التسليم بإسدال الستار على دولة إسرائيل، قد يقبل بإعادة الأراضي المحتلة عام 1967، لكن مقابل الاحتفاظ بحدود 1948.
أما من زاوية العرب، فالذين يريدون دولة واحدة من البداية سينتظرون تغييراً جذرياً وشاملاً في الأوضاع العربية. أما القابلون بدولة في حدود 1967 فينتظرون تحسيناً محدوداً نسبياً، وهو ممكن في الأمد المنظور لهذه الأوضاع.