نوبات القلق... إعاقة نفسية منسية
يؤمن الكثيرون بأن التوازن النفسي والعاطفي، يُعدّان من أهم الدعائم التي ترتكز عليها السعادة الشخصية، والتناغم الاجتماعي، والنجاح المهني. ولكن مثله مثل بقية أعضاء وأجهزة الجسم، يتعرض الجهاز النفسي -إن صح التعبير- إلى أمراض وعلل، تؤثر سلباً على قدرة الشخص على الأداء العام وعلى الانخراط في مجتمعه. أحد تلك الأمراض، هو اضطرابات القلق (Anxiety Disorder)، وهذا المصطلح أو التعبير يشمل في الحقيقة مجموعة أو طائفة من الأمراض، تتضمن: اضطراب القلق العام، واضطرابات الفزع (Panic Disorder)، و"الفوبيا" بجميع أنواعها، ومرض الوسواس القهري، والتوتر النفسي بعد الصدمات، أو صدمة ما بعد الكوارث (Post-traumatic Stress Disorder)، وغيرها. ولسبب أو لآخر، لا تحتل هذه الطائفة من الأمراض قدراً كبيراً من الاهتمام، ليس فقط بين العامة ووسائل الإعلام، بل حتى أيضاً بين أفراد المجتمع الطبي غير العاملين في مجال الصحة النفسية. وربما كان السبب في ذلك هو أننا جميعاً نعتبر القلق، والخوف، والفزع، مجرد مشاعر طبيعية عهدناها جميعاً مراراً وتكراراً في حياتنا، مما يجعلنا نستغرب ونستهجن توصيفها بالحالة المرَضية. والحقيقة هي أن ما نتحدث عنه هنا ليس المشاعر الطبيعية المعتادة، وإنما وصول تلك المشاعر إلى درجة مرَضية تسبب التعاسة اليومية المستمرة لصاحبها، وتعيقه عن أداء وظائف حياته اليومية.
وقد يندهش البعض لمدى انتشار اضطرابات القلق بأنواعها المختلفة، حيث تظهر بعض الإحصائيات أن 30% من الأميركيين مثلاً يعانون بشكل أو بآخر من أحد أنواع اضطرابات القلق. ولا يختلف الوضع كثيراً عنه في بريطانيا، حيث تعتبر اضطرابات القلق من أكثر العلل النفسية انتشاراً على الإطلاق. والغريب أنه على رغم هذا الانتشار الواسع لاضطرابات القلق، لا زال الطب الحديث عاجزاً عن تفسير السبب خلفها بشكل أكيد. حيث لا تزيد التفسيرات المطروحة حالياً عن مجرد نظريات، تلقي كل واحدة منها باللائمة على سبب مختلف، مثل العوامل البيئية، أو البيولوجية، أو الوراثية، أو التغيرات الكيميائية في المخ، أو التعرض لصدمات نفسية. وبغض النظر عن السبب، وعلى رغم اختلاف الأعراض والعلامات للأمراض التي تندرج تحت يافطة اضطرابات الفزع، إلا أنها جميعاً تشترك في شعور المريض بإحساس غامر ودافق من القلق، والرعب، والفزع، يظهر في شكل تسارع التنفس، والشعور بضربات القلب، وبرودة وتعرُّق اليدين، وجفاف الحلق، واضطراب المعدة والأمعاء، وتوتر العضلات، وتنمُّل الذراعين والساقين، والأرق، والتعرض لكوابيس مخيفة أثناء النوم. ومرة أخرى، ليست نوعية هذه الأعراض والعلامات التي تحدد إصابة الشخص باضطرابات القلق، وإنما شدتها، والشكل العام الذي تظهر من خلاله.
ولتقريب هذا المفهوم، يمكن أن نستعرض مرضين شهيرين من أمراض اضطرابات القلق. المرض الأول هو اضطراب القلق العام (General Anxiety Disorder)، الذي يعتبر حالة مرَضية مزمنة، تصيب النساء ضعفي إصابتها للرجال، وتؤدي إلى إعاقة ملحوظة. وكما يدل الاسم، يتميز اضطراب القلق العام بوجود قلق دائم ومستمر لفترات طويلة، دون أن يكون هناك سبب محدد أو واضح. حيث يشعر هؤلاء المرضى بقلق وخوف داخلي دائم، دون أن يستطيعوا تحديد سبب مشاعرهم تلك. ويؤدي هذا الشعور بالقلق المستمر إلى تغيرات عصبية، ينتج عنها صداع، وشعور بضربات القلب، ودوخة، وأرق، وآلام في الصدر. وهذه الأعراض، بما يترافق معها من شعور مزمن بالقلق، تجعل من الصعب على المرضى القيام بنشاطات حياتهم الاعتيادية، وهو ما يعتبر نوعاً من الإعاقة النفسية. والمرض الآخر الذي قد يوضح مدى فداحة الثمن الإنساني لاضطرابات القلق، هو نوبات الفزع (Panic Attack). والمصابون بتلك الحالات، يتعرضون لنوبات قصيرة حادة من الرعب الحاد، تنتج عنها رعشة وارتجاف في جسد المريض، وشعوره بالدوخة، والغثيان، واضطراب التفكير، وصعوبة التنفس، والإحساس بقرب وقوع مصيبة أو كارثة. وهذه النوبات تتراوح فتراتها ما بين عشر دقائق إلى عدة ساعات، وإذا ما تكررت بشكل دائم يعتبر الشخص حينها مصاباً باضطراب الفزع (Panic Disorder).
ويمكننا أن نتخيل حياة شخص يعيش في قلق دائم ومستمر، دون سبب واضح أو معروف، كما هو الحال في اضطراب القلق العام. أو أن يتعرض المرء لنوبات من الفزع الشديد، ترتجف لها أطرافه، وتصطكُّ لها أسنانه. ومثل هؤلاء الأشخاص يتعمدون الانعزال عن الحياة الاجتماعية، إما بسبب خوفهم وقلقهم، أو بسبب رغبتهم في تجنب الإحراج ونظرات الشفقة من الآخرين أثناء وقوع نوبات الفزع. والجانب الآخر السلبي لهذه الأمراض، التي تسبب حالة من التوتر المزمن لأصحابها، يظهر في شكل إصابتهم لاحقاً بالاكتئاب الشديد. فمن المعروف والثابت، أن الأشخاص الذين يتعرضون لتوتر مزمن، سواء كان لأسباب طبيعية، أو لسبب مرضي، غالباً ما ينتهي بهم الحال إلى الاكتئاب، مما يضاعف من مشاكلهم النفسية، ويزيد من عزلتهم عن بقية أفراد المجتمع. وبالنظر إلى مدى انتشار اضطرابات القلق، وما ينتج عنها من إعاقات نفسية متعددة الأشكال، يمكننا أن نتخيل مدى المعاناة الإنسانية الناتجة عنها، ومدى بؤس الحياة التي يعيشها المصابون بها. وهو ربما ما يتطلب اهتماماً أكبر، ليس فقط من العامة ووسائل الإعلام، بل أيضاً من أفراد المجتمع الطبي، على صعيد تغيير نظرتهم لهذه الأمراض، وتمييز علاماتها وأعراضها بشكل مبكر، ومن ثم سرعة توجيه المرضى إلى الأخصائيين القادرين على مد يد العون لهم.
د. أكمل عبد الحكيم