لم أزر كوريا قبل الآن. ولذلك ما إن تلقيت دعوة من جامعة كونكون في سيئول لإلقاء محاضرة حول دور الدين في الصراعات السياسية في الشرق الأوسط حتى سارعتُ إلى تلبية الدعوة. صادف وصولي إلى العاصمة الكورية اليوم التالي مباشرة لتدمير برج تبريد المياه الثقيلة في المفاعل النووي الكوري الشمالي. وهي خطوة رحبت بها الدول الآسيوية ودول العالم كله، واعتبرتها بداية لتصفية الترسانة النووية الكورية الشمالية، وبالتالي بداية لفرض أمر واقع لا نووي على بقية الدول خارج مجموعة الثماني الكبيرة. وفي الطريق من المطار (الذي يبعد حوالي سبعين كيلومتراً عن المدينة) إلى الفندق كنتُ أتوقع أن أرى الفرحة في الشوارع ابتهاجاً بالحدث السعيد. ذلك أن سيئول تبعد أقل من مئة كيلومتر عن الحدود مع كوريا الشمالية. وبالفعل ما أن وصلت بنا السيارة إلى الساحة الرئيسة في المدينة حتى توقف السير أمام حشد كبير من الكوريين المتجمعين. اعتقدت أن التجمع احتفالي بمناسبة تدمير المفاعل النووي الكوري الشمالي. إلا أنني قرأت يافطات باللغة الإنجليزية كان يحملها بعض المتظاهرين تندد بالولايات المتحدة وتطالب بمقاطعتها. استوضحت مرافقتي وهي مسؤولة في المؤسسة الكورية التي تولّت تنظيم زيارتي، عن هذا الأمر فقالت لي إن المظاهرة تطالب بوقف استيراد اللحوم من الولايات المتحدة خوفاً من انتقال جرثومة "جنون البقر" إلى كوريا. وإن المظاهرة تتواصل ليل نهار منذ أكثر من شهر. هنا أدركت أن الأمر لا يتعلق بما جرى في كوريا الشمالية. بل بما يجري في الولايات المتحدة. إذ توجد في العاصمة سيئول ثكنة للجيش الأميركي تحتلّ مساحة واسعة جداً من قلب المدينة، تحيط بها أسوار مرتفعة. وعلى رغم أن المظاهرات المعادية للولايات المتحدة تجوب أنحاء المدينة إلا أن المتظاهرين لم يتعرضوا لهذه الثكنة الكبيرة، ولم يحاول أي منهم أن يرجمها بحجر. ولم أستطع أن أفسر هذا الموقف إلا في ضوء خلفية العلاقات الأميركية- الكورية، والكورية- اليابانية. فقد احتلت اليابان الدولة الكورية لمدة 36 عاماً. ولم يتمكن الكوريون من التحرر من هذا الاحتلال إلا بالمساعدة الأميركية. ثم إن موجة المدّ الشيوعي التي اجتاحت كوريا لم تتوقف إلى الشمال من سيئول إلا بالمساعدة الأميركية، وبعد حرب دامية استمرت ثلاث سنوات (1950-1953) بين الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها، والاتحاد السوفييتي السابق وحلفائه. وقد انتهت تلك الحرب بهدنة لا تزال مستمرة منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي وحتى اليوم. ولا تنتهي هذه الحرب رسميّاً وواقعيّاً إلا بإعادة توحيد الكوريتين أو بعقد معاهدة سلام بينهما. لم يضيّع الأميركيون دعمهم لكوريا سدى. فقد عملت الكنائس الأميركية على قطف الثمار بالتبشير بالمسيحية. ومما ساعدها على النجاح في ذلك، إقامة المؤسسات الاجتماعية والصحية (المستشفيات) والتربوية (الجامعات) في مختلف المدن، وخاصة في سيئول. وهكذا أصبح 40 في المئة من الكوريين اليوم -الذين يبلغ عددهم حوالي العشرين مليوناً- من المسيحيين، ينتمون إلى الإنجيلية (حوالي ستة ملايين) والكاثوليكية (حوالي المليونين). أما بقية الكوريين فيتوزعون على عقائد وأديان أخرى أهمها البوذية والكونفشيوسية. أما الإسلام فلم يتعرف عليه الكوريون إلا متأخراً أثناء الحرب الكورية وذلك من خلال كتيبة عسكرية تركية كانت جزءاً من القوات التابعة للأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة وبهدف محاربة الشيوعية. فقد أقام الجنود الأتراك خيمة لهم لأداء الصلاة بإمامة الشيخ -الضابط - زبيركوش. وبعد انتهاء الحرب تزوج عدد من الجنود الأتراك من أهل البلاد وأقاموا فيها، إلا أن معظمهم هاجر إما إلى الولايات المتحدة أو عاد إلى تركيا. ولذلك لا يزيد عدد المسلمين الكوريين اليوم على 35 ألفاً فقط. أما الخيمة فتحوّلت إلى مسجد. ففي كوريا اليوم تسعة مساجد بينها المسجد الجامع في سيئول الذي أقيم فوق تلة مرتفعة مطلة على عدد من أحياء المدينة، إضافة إلى خمسين مصلى. ويتمتع المسلمون على قلتهم بما يتمتع به المواطنون الآخرون من حرية في ممارسة شعائرهم الدينية. وقد حصل المسلمون الكوريون على إذن من الحكومة لإقامة جامعة "ميونجي"، التي ستكون الجامعة الأولى التي تدرّس الدين الإسلامي إلى جانب اللغة العربية. قد يكون من حق لبنان أن يتغنى بأنه بلد متعدد الأديان والمذاهب في الشرق الأوسط، وبأنه بالتالي وعلى رغم الكثير من الهنات غير الهيّنات، حامل رسالة العيش المشترك. ولكن كوريا الجنوبية تبدو من حيث هذه المواصفات كأنها لبنان الشرق الأقصى. ففيها إلى جانب الكنيسة الكاثوليكية معظم الكنائس الإنجيلية. وفيها إلى جانب البوذية معظم العقائد المستحدثة والمتفرعة عنها. ومن هذه الأديان المستحدثة مثلاً "تن- تو- كيو" وهي عقيدة يمكن وصفها بأنها مسيحية- كورية تعني الطريق بين الأرض والسماء. أما العقيدة التاريخية الأساسية لأهل البلاد فهي البوذية. وفي الاعتقاد البوذي أن هناك علاقة مباشرة بين قوى الطبيعة. فالقصر الملكي مثلاً كان يُبنى دائماً في منطقة تقع بين الجبل والنهر، مما يمكّن الأرواح المنطلقة من الجبل إلى النهر بأن تمر عبر القصر، وبأن تشكل قوة ودعماً لسيده. وعندما احتل اليابانيون كوريا، عمدوا إلى إقامة مبنى كبير لإدارتهم العسكرية في باحة القصر الملكي، الأمر الذي قطع التواصل الروحي بين الجبل والنهر، أو حوّل هذا التواصل لمصلحة الحاكم العسكري الياباني. ولكن بعد استقلال كوريا حوّلت الحكومة الوطنية المبنى إلى متحف. ثم اكتشفت أنه لا يجوز أن يكون المتحف الوطني قائماً في مبنى يذكّر بفترة الاحتلال الياباني. فدُمر المبنى وتحوّل اليوم إلى موقف لسيارات زوار القصر التاريخي. ثم شيدت كوريا متحفاً جديداً يشكل نموذجاً لفن العمارة الحديثة. ولعل أهم ما يلفت النظر في المتحف أنه يعرض نصوصاً دينية بوذية مطبوعة بواسطة أحرف مصنوعة من الحديد وذلك قبل عقود من اكتشاف غونتنبرغ الطباعة المعدنية في ألمانيا. لم تكن كوريا فقط مسرحاً لمطامع اليابان قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل كانت قبل ذلك مسرحاً للتمدد الروسي.. وبالتالي للصراع الروسي- الياباني. وتشكل القصة المأساوية للملك "كوجون مانغ سون يانغ فو" في عام 1895 ذروة مأساة هذا التدخل. ذلك أن زوجة الملك كانت يتيمة من عامة الناس، إلا أنها كانت تتمتع بثقافة عالية وبطموح سياسي واسع حتى أصبحت الحاكم الفعلي للبلاد، وتحالفت مع روسيا ضد اليابان، إلا أن اليابانيين تمكنوا من اغتيالها بالسيف. وهكذا اضطرت كوريا في عام 1905 إلى عقد معاهدة صداقة مع اليابان. وبعد عامين فرضت اليابان حلّ الإمبراطورية الكورية، وفي عام 1910 احتلّت البلاد احتلالاً مباشراً. تحيط بالقصر الملكي مجموعة من التماثيل لحيوانات خرافية أشبه ما تكون بالأسود. وكان يعتقد أن هذه الحيوانات آكلة للنار. وأنه ما أن تنشب النار في القصر أو في أي من المعابد البوذية المصنوعة كلها من الخشب، فإن هذه الحيوانات المقدسة تبادر إلى التهامها على الفور. وكانت توضع في ثنايا القصر وفي أرجاء المعبد براميل خشبية مملوءة بالماء، ليس لإطفاء الحرائق، ولكن حتى يعكس الماء صورة النار المتأججة فتخاف النار من الصورة وتنطفئ بذاتها. ولا تزال هناك أيضاً تماثيل أخرى لتخويف الشياطين من دخول القصور والأديرة. ولكن هذه التماثيل لم تخف اليابانيين ولا أطفأت نيران أسلحتهم! والآن وبعد إعادة ترميم القصور الملكية الخمسة في سيئول، وكذلك العديد من الأديرة، أعيد الاعتبار إلى هذه التماثيل، إلا أنه تم تشكيل جيش وطني كبير وعصري لإبعاد الشياطين! وقد وصلت فرقة من هذا الجيش إلى جنوب لبنان للعمل في إطار قرار مجلس الأمن الدولي 1701، أي لإبعاد الشياطين الإسرائيليين عن الأراضي اللبنانية بعد أن زرعوها بمئات الآلاف من القنابل العنقودية. لقد خرجت كوريا من القمقم لتصبح أحد عمالقة الاقتصاد الآسيوي. وهي اليوم تجمع بين احترام التقاليد القديمة وأحدث تقنيات الحداثة. كما أنها تجمع بين صداقتها لروسيا وصداقتها لليابان، وتلعب بينهما دوراً توفيقياً بعد أن عانت طويلاً من الوقوع بين المطرقة اليابانية والسندان الروسي. لقد كان ملوك كوريا الأقدمون يتخذون من الطائر الخرافي الفينيق شعاراً لهم، وذلك رمزاً لقوة الانبعاث المتجدد. وتعيش كوريا اليوم هذه الأسطورة مجدداً.