في الثاني من يونيو 2008، نشر في أحد المواقع الإلكترونية بيان لمجموعة من رجال الدين وكبار الفقهاء في الشقيقة المملكة العربية السعودية، بعنوان "22 عالماً من غلاة الوهابية يصدرون بياناً عنيفاً ضد الشيعة". من بين الموقعين على البيان المؤسف، الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين، والشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر البراك، ود. الشيخ عبدالله بن حمود التويجري، ود. الشيخ عبدالله بن حمد الجلالي وآخرون. البيان كما لا يخفى، ورقة من أوراق السجال الطائفي والشد والجذب الذي تتوالى أوراقه وتطوراته منذ سنوات طويلة، ولكن على الخصوص منذ سقوط النظام العراقي السابق عام 2003، كذلك منذ بروز الدور الجديد لـ"حزب الله" في لبنان وتجدد الحديث عن الهلال الشيعي وتصاعد أزمة إيران مع دول المنطقة والعالم. لا يحتوي البيان على أي جديد في "الموقف الوهابي" من حقيقة "الشيعة الرافضة". فالبيان ينص على أنها "الطائفة التي نبتت في جسم الأمة الإسلامية منذ عهود متطاولة بفعل بعض اليهود". ويقول كذلك "إن طائفة الشيعة الرافضة شر طوائف الأمة وأشدهم عداوة وكيداً لأهل السنة والجماعة" وأن الشيعة "يتدينون بلعن جميع أهل السنة الأولين والآخرين"! ويشكك البيان حتى في معتدلي الشيعة لأن "من أصولهم ما يعرف عندهم بالتقية، الذي حقيقته النفاق بإخفاء باطلهم فيظهرون خلاف ما يبطنون". ولا شك أن ما من عاقل بين السُنة والشيعة في منطقة دول مجلس التعاون وكل العالم العربي والإسلامي، إلا ويقول كان الله في عون رجال الحكم والتوجيه والإعلام في المملكة الشقيقة في هذه المرحلة الدقيقة. فتحديات الإرهاب الداخلي والخارجي من جانب، وتحديات وضغوط الوضع الدولي من جانب ثان، ومشاكل الانفتاح وتطوير المجتمع السعودي من جانب ثالث، والاستراتيجيات التي يتبناها تيار "حزب الله" والقوى الإقليمية المساندة له، والمشكلة النووية الإيرانية من جانب رابع، وغيرها. ومن المؤسف حقاً أن مثل هذا البيان يسيء أشد الإساءة في الواقع للمجهود السعودي الداخلي في تعزيز الوحدة الوطنية والحوار الوطني وإشاعة التسامح بين أتباع مختلف المذاهب ومنهم بالطبع الشيعة، داخل الدولة. وكذلك الدور السعودي الخارجي وهي الدولة التي تتمتع بكل ما هو معروف من مكانة متميزة في الوسط العربي والإسلامي والدولي. ولقد حاول الإسلاميون السلفيون في المملكة، وأعني المتشددين منهم منذ سنوات ليست بالقليلة، تكريس المملكة كدولة سلفية لأهل السُنة وحدهم، ربما لإحداث بعض التوازن ضد الجمهورية الإيرانية التي ينص دستورها على "المذهب الشيعي الاثنى عشري". ومثل هذا التصور والإطار المذهبي للمملكة العربية السعودية، رغم كل المعطيات والظروف الخاصة بها، لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع حتى لو تحمس بعض المتزمتين والمتشددين لذلك. فدور المملكة خليجياً وعربياً، وبخاصة بين دول مجلس التعاون المتعددة المذاهب، وفي السعودية نفسها حيث ينتمي مئات الآلاف من المواطنين الشيعة إلى البلاد، يجعل ربط الدولة السعودية بمذهب معين تقليصاً حاداً لدورها ومكانتها وطموحها السياسي والإقليمي. كما أن دور المملكة، كقوة اتزان واعتدال واستقرار في هذه المنطقة، يجعلها حتماً دولة للسنة والشيعة معاً دون تفريق. من هذه الزاوية، ينبغي لنا أن نفهم تصريح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود في مقابلته مع صحيفة "السياسة" (1/7/2008) عندما قال: "إننا لن نسمح لأصحاب المرئيات الطائفية بأن يروجوا بضاعتهم الفاسدة بين شعوب المنطقة التي تمقت هذا الطرح البغيض وتعي خطورته وحتى تأنف سماعه، وستقف هذه الشعوب -بعون الله تعالى- سداً منيعاً أمام أي أناس لا يريدون الخير للمنطقة وشعوبها عبر إثارتهم النعرات الطائفية أو ما شابه ذلك من أمور دخيلة على مجتمعاتنا. وأعتقد أننا في طريقنا نحو إحقاق الحق بهزيمة هذه الطروحات والمرئيات غير السوية". وقد يقول قائل إن المقصود من حديث خادم الحرمين الشريفين نقد السياسات الطائفية لبعض الدول والأحزاب في المنطقة. ولكن الملك عبدالله كشف في خطاب سابق له، صراعه مع العقلية الطائفية في أبشع صورها في الأوساط المتزمتة داخل المملكة، عندما تحدث إلى العلماء والمفكرين المشاركين في اللقاء الثاني للحوار الوطني في قصره بالرياض، في معرض حديثه عن المساعدات السعودية لإيران عندما تعرضت مدينة "بَمْ" للزلزال المدمر، حيث تولى بعض "السعوديين"، مهاجمة هذه الخطوة الإنسانية التي تهدف إلى "مساعدة إيران"! الخطاب ألقاه خادم الحرمين ربما في 12 ذي القعدة 1424، ونشر في صحيفة "الجزيرة" السعودية، يوم 5/1/2004، وكان الملك وقتها ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني. وقال فيه مخاطباً رجال الدين والمثقفين السعوديين السنة والشيعة:"يا إخواني الحادثة التي حدثت في إيران كلكم تعرفونها، وهذا قضاء وقدر من رب العالمين. وأمتكم من هنا أرسلت الواجب عليها من خيام وأرزاق وأطباء ومستشفى وإلى آخره.. واقترحتْ على إخوانها في الخليج بتخصيص صندوق لإعمار بعض ما تهدم.. هذا واجب إسلامي وإنساني.. ولكن الذي سمعت يا إخوان ولا أحب أن أقوله في هذا الموقف.. قيل في الإنترنت.. كيف نبعث لإيران هذه التبرعات؟ أي تبرعات؟ هذا واجب عليكم كلكم. وقيل هؤلاء لا يستحقون شيئاً. وهؤلاء فيهم ما فيهم.. وكثّروا. ولكن الأخبث والأنذل من هذا. قالوا يا ليت الدم الذي أرسل لهم وُضع فيه خليط من الأيدز ليموت أكثر. أهذه أخلاق؟ هل هذه أخلاق إسلامية؟ هل هذه أخلاق إنسانية أو عربية؟ يا إخوان كيف ينسبون هذا بأنه سعودي؟ يخسأ هذا ليس سعودياً. براء منه إن شاء الله.. كل سعودي لا يمكن أن يبدر منه إلا كل شيء طيب.. أحب أن أعلنها الآن بأن كل ما جاء في الإنترنت ونُسب للسعودي فليس سعودياً.. بل يمكن أن ينتمي إلى فئات أنتم أعلم بها وضعوها ليلصقوها في الشعب السعودي.. وإلا فمن يقول هذا القول يخجل من إنسانيته.. لكن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. شكراً لكم". (الجزيرة السعودية، 5/1/2004). نعود الآن إلى هذا البيان الصادر للأسف من قبل بعض الفقهاء وحملة شهادات الدكتوراه من رجال الدين، فنعرضه على مواد "النظام الأساسي للحكم" الذي هو بمثابة دستور المملكة العربية السعودية، ونشير مثلاً إلى ثلاث منها هي: المادة 12:"تعزيز الوحدة الوطنية واجب وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام". المادة 26: "تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية". المادة 39:"تلتزم وسائل الإعلام والنشر وجميع وسائل التعبير بالكلمة الطيبة وبأنظمة الدولة، وتسهم في تثقيف الأمة ودعم وحدتها ويحظر ما يؤدي إلى الفتنة أو الانقسام أو يمس بأمن الدولة وعلاقتها العامة أو يسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه وتبين الأنظمة كيفية ذلك". وإذا حاكمنا بيان "غلاة الوهابية" كما وصفهم الموقع الإلكتروني، بما جاء في مواد دستور المملكة، وجدنا فيه صداماً مريعاً لمنطوق ومضمون هذه المواد، دع عنك منطلقات السياسة السعودية التي وثَّقناها للقارئ من خلال الخطاب الملكي في لقاء الحوار الوطني بالرياض، وتصريحات خادم الحرمين الشريفين لصحيفة "السياسة" الكويتية. ونرى البيان في الواقع يقدم خدمة كبرى لتيار التكفير في أكثر من دولة عربية، ويبرر لاستمرار العمليات الإرهابية الانتحارية في العراق حيث لاقى ولا يزال يلاقي عشرات وربما المئات من الشباب السعوديين والخليجيين الآخرين حتفهم في عمليات مروعة قتلت آلاف الرجال والنساء والأطفال وخربت الكثير من المناطق والأسواق، باسم محاربة النفوذ الشيعي. إن الوسط السُني والشيعي لا يزال لحسن الحظ يزخر بالعقول النيرة والنخبة الواعية التي تدرك مخاطر التصعيد الطائفي وتسييس المذاهب والأديان. وكان بإمكان مثل هذا البيان الصادر عن رجال الدين في المملكة أن يقول ما يقول في حدود نقده لفئة معينة أو تيار معين ضمن الطائفة الشيعية، وهذا ما سيؤيدهم فيه الكثير من الشيعة المعادين لتيار التسييس والتهجم و"ولاية الفقيه" و"تصدير الثورة"، أما أن يصدر بيان كهذا عن بعض قادة رجال الدين في السعودية، فهو في الواقع إلى جانب مجافاته لما هو معلوم من تطورات في تاريخنا الإسلامي منذ حادثة السقيفة وحربي "الجمل" و"صفين" وغيرها، فيه كذلك تجن مؤسف على الكرامة الدينية لشريحة واسعة من المواطنين المخلصين في المملكة العربية السعودية وسائر دول الخليج وبعض الدول العربية والإسلامية. كل هذا في مرحلة نحن في غنى عن المزيد من التوتر والصراع.