حرب 1948... قراءة أخرى للتاريخ!
"الخطأ في قراءة التاريخ هو جزء من عملية تشكيل الأمة"، جملة قالها الفيلسوف الفرنسي "إرينست رينان" في القرن التاسع عشر، لكن صداها مازال يتردد حتى وقتنا الحاضر. فبينما تحتفل إسرائيل بعيد ميلادها الستين، أو ما يسمونه "عيد الاستقلال"، يحيي الفلسطينيون، من جانبهم، ذكرى النكبة وبداية مأساتهم الوطنية بفصولها المتواصلة حتى اليوم. هذا التاريخ المثير والمنفتح على قراءات متضاربة، يوثقه الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي "بيني موريس" في كتابه الذي نعرضه هنا وعنوانه "1948: تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى". لكن الكاتب وخلافاً للروايات السائدة حول الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل، والتي تنحاز في غالبها للقراءات الإسرائيلية وتلتمس الأعذار للمشروع الصهيوني بعد تعرض اليهود للإبادة في أوروبا، يسعى إلى كشف الأساطير المؤسسة للتصورات الصهيونية، لاسيما تلك التي أحاطت بحرب 1948.
وللوهلة الأولى تبدو مهمة الكاتب صعبة في ظل تقوقع كل طرف داخل روايته الخاصة للحرب وتضاربها المطلق مع رواية الطرف الآخر. والواقع أن الصراع على التاريخ وإعادة ترتيب تفاصيله، كما يقول الكاتب، هو امتداد للصراع الجاري على الأرض، كما أن التطلعات القومية، سواء لليهود أو للفلسطينيين، تجد لها متنفساً على صفحات التاريخ بكل ما تحمله من رمزية تُعتبر ضرورية لصياغة الوجدان والهوية. وبقدر ما تساهم المصالح المتباينة للأطراف في إنتاج قراءات مختلفة للحوادث التاريخية، وفي حالتنا هذه حرب 1948، من أجل تبرير الوجود وشرعنة الحضور، فإن قراءة التاريخ نفسها تتحول إلى وسيلة لتشكيل الوجدان وصياغة الهوية، وآلية لترسيخ الأساطير الصهيونية. والحقيقة أن المؤرخ "بيني موريس" مؤهل لهذه المهمة كما يدل على ذلك مشواره المهني، حيث سبق أن تحدى الرواية الرسمية لإسرائيل وساهم في تعميق الفهم العام حول الصراع العربي الإسرائيلي. وأكثر من ذلك، يتوفر الكاتب على الأدوات الأكاديمية اللازمة للنبش في الوثائق التاريخية، فهو حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة كمبريدج العريقة، كما أنه رفض خلال الانتفاضة الأولى عندما كان ضابط احتياط، المشاركة في قمع الفلسطينيين، ما كلفه قضاء فترة قصيرة في السجن لعصيانه الأوامر العسكرية.
وفي تناوله لحرب 1948 يتحدث المؤلف عن المواجهات التي اندلعت بين الميليشيات اليهودية والأهالي الفلسطينيين في نوفمبر 1947 عندما وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على تقسيم فلسطين إلى دولتين، إحداهما لليهود والأخرى للفلسطينيين. ورغم المشاكل التي واجهتها الدولة اليهودية الوليدة في بدايتها، والانتكاسات العسكرية التي كادت تعصف بوجودها، يشير الكاتب إلى الانتصارات التي تتابعت بعد ذلك على أيدي الميليشيات اليهودية، أو النواة الأولية للجيش الإسرائيلي (الهاجانا). فقد لعبت هذه الميليشيات دوراً كبيراً في تهجير الفلسطينيين ودفعهم إلى الفرار نحو الدول العربية المجاورة، وهي الرواية التي تصر الدوائر الرسمية في إسرائيل على إنكارها، معتبرة أن خروج الفلسطينيين كان طوعياً، ولم يجبرهم أحد على الهرب!
أما الجزء الثاني من الحرب الذي يركز عليه الكاتب، فقد بدأ مع تحرك الجيوش العربية القادمة من مصر والأردن وسوريا والعراق بعد إعلان إسرائيل قيام الدولة في 14 مايو 1948. وفي تلك الحرب حققت إسرائيل انتصاراً على الجيوش العربية وتمددت خارج خط التقسيم الأممي، مستكملة عملية طرد الفلسطينيين وتدمير القرى العربية. وخلال استعراضه لتفاصيل سير الحرب، يعدد المؤلف أسماء المناطق الجغرافية وساحات المعارك، فضلاً عن نوعية السلاح وخطوط الإمداد، ساعياً إلى فصل الحقائق عن الأساطير. فرغم التفوق العددي للعرب الذين كان يبلغ عددهم الإجمالي حينئذ حوالي 40 مليون نسمة مقارنة بـ650 ألف يهودي في فلسطين، فإنه من الناحية التنظيمية عانى العرب من قصور وضعف واضحين. وفيما كانت درجة التنسيق بين الوحدات العسكرية المختلفة لليهود عالية والأهداف واضحة، ينبه الكاتب إلى الاعتبارات القبلية والعشائرية التي حالت دون تنسيق الجهود العربية، فضلاً عن نقص التدريب وغياب الرؤية.
ولا يتردد الكاتب في كشف الفظائع التي ارتكبت خلال الأشهر الخمسة لحرب 1948، حيث تورط الطرفان معاً في عمليات إعدام الأسرى وقتل المدنيين، لكن الجزء الأكبر من الجرائم كان من نصيب العصابات اليهودية، وهو ما عبر عنه الكاتب بقوله: "لقد ارتكب اليهود من الفظائع أكثر مما ارتكبه العرب، حيث قتلوا المدنيين وأسرى الحرب، وذلك طيلة عام 1948". وفيما يتعلق بالانتصارات التي حققها اليهود، فإن الكاتب يرجعها ليس إلى الأسلحة التي تلقتها الدولة الناشئة من أوروبا الشرقية خلال الحرب، بل إلى ما عبر عنه "ديفيد بن جوريون" من أن "السلاح السري" للإسرائيليين يكمن في روحهم العالية ومعنوياتهم المرتفعة التي تغذيها الرغبة في إنشاء كيان خاص بهم. وفي مرحلة لاحقة من الحرب وصل "بن جوريون" إلى قناعة أخرى مفادها أن العرب أنفسهم هم سبب انتصار إسرائيل قائلاً "إنهم العرب، حيث تنعدم الكفاءة بشكل لا يتصور". والواقع أن انعدام كفاءة العرب في خوض الحرب تكشفت بالفعل، كما يقول الكاتب، خلال الهدنة التي استمرت أربعة أسابيع بين شهري يونيو ويوليو 1948. فقد استغل الإسرائيليون الهدنة لتجنيد مزيد من المقاتلين وإعادة تنظيم صفوفهم، وقاموا باستيراد الأسلحة الثقيلة والذخيرة من أوروبا الشرقية، رغم الحظر المفروض من قبل الأمم المتحدة!
زهير الكساب
ــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: 1948: تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى
المؤلف: بيني موريس
الناشر: مطبوعات جامعة ييل
تاريخ النشر: 2008