حوار الثقافات في أوروبا
أتيح لي أن أشارك في المؤتمر الثالث لوزراء الثقافة في الاتحاد الأوروبي وحوض المتوسط، الذي عُقد في أثينا أواخر شهر مايو الفائت عام 2008، وهو يأتي في إطار عملية برشلونة، متابعة لمؤتمرين سابقين لوزراء الثقافة عقدا في بولونيا وفي إيطاليا (رودس) ولاجتماع وزراء الخارجية، الذي عقد في كريت عام 2003، وكان مكرساً لحوار الثقافات، كما يأتي في إطار السنة الأوروبية والسنة الأورو متوسطية للحوار بين الثقافات.
وكان وزراء خارجية الأورو متوسطي قد أنشأوا في عام 2004 مؤسسة باسم "أناليند"، وهي غير حكومية مهمتها تحقيق التقارب في الثقافات بين شعوب أوروبا والمتوسط، وقد تحولت هذه المؤسسة سريعاً إلى شبكة ضخمة تضم نحو ألف وخمسمائة منظمة ملتزمة بتعزيز الحوار، وقد أشرت في الكلمة التي ألقيتها في المؤتمر إلى بعض إشكاليات التواصل بين الثقافتين الأوروبية والعربية الإسلامية، وهي المسكوت عنها في مفاصل الحوار، فقد كنت أقرأ البيانات التي تدعو إلى تعزيز الحوار، وأسمع الكلمات التي تدعو إليه، وأنظر إلى الدعوات المتلاحقة للاعتراف بالآخر، دون أن ألحظ مسميات المضامين، وأحسب أن عدم الإشارة إلى المواجع الحقيقية يجعل الحوار يدور على سطح الأفكار، ولا يدخل عمقها، حيث ستغلب اللغة الدبلوماسية المنمقة على الصراحة في تبادل الفكر، ومواجهة القضايا الساخنة.
وأهم القضايا الساخنة التي ينبغي أن يتم الحوار حولها هي الموقف من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وهي الواقعة على شاطىء المتوسط، حيث ينبغي أن يتطهر المتوسط (وهو الرابط الجغرافي في الشراكة) من الاحتلال والعنف والعنصرية وفكر إبادة الآخر وحصاره وتجويعه ومنعه من التواصل مع جيرانه، بل منعه من الحصول على الدواء والعلاج، وقد قرأت وأنا في اليونان خبراً عن زوجين فلسطينيين في غزة ماتا في الأسبوع الماضي بسبب قيام إسرائيل بمنعهما من الحصول على العلاج، وكان طبيعياً أن نسأل أصدقاءنا الأوروبيين كيف يمكن أن نمارس الحوار وشعبنا في فلسطين يعاني فظاعة الحصار، فضلاً عن القتل اليومي وعن الدمار في العراق، وهو ما يتابعه العالم بأعصاب باردة، ودون أي موقف دولي جاد يقدم آليات عملية لإيقاف حالة العنف والتمزق التي نجمت عن الاحتلال، كما سيبدو الحوار شكلانياً إذا لم تتوصل الدول المتحالفة في حرب ضد الإرهاب إلى تعريف ثقافي وحضاري لمعنى المقاومة ولتمييزها عن الإرهاب، فقد زيف المحتلون معنى المقاومة، وقدموا مغالطة فكرية حين قالوا إنه لا يجوز تقسيم الإرهاب إلى إرهاب سيئ وآخر جيد، وهذه لعبة سفسطائية تتجاهل حق الشعوب في الدفاع عن حريتها وعن استقلالها، وهو حق كفلته كل المواثيق الدولية وكل الشرائع السماوية والوضعية، والتهرب الحاصل من إقامة مؤتمر لتعريف الإرهاب، يجعل الحوار ناقصاً وسيجعل بنيته هشة وشكلانية، ولاسيما أن كثيراً من الخلافات الحادثة بيننا نحن العرب، وبين دول يفترض أن تكون صديقة لنا هو الموقف المستجد لديها من المقاومة، فحين تُعتبر منظمة "حماس" و"حزب الله" على سبيل المثال لا الحصر منظمتين إرهابيتين، فإن كل حقائق التاريخ ينبغي أن يُعاد فيها النظر، وقد ذكرت الزملاء الوزراء في المؤتمر بأننا جميعاً نقدم الزهور لأضرحة ونصب الجندي المجهول بوصفه رمز المقاومة التي حققت الاستقلال والحرية لشعوبنا، فهل نناقض أنفسنا فنقدم له التحية والاحترام، ثم نصف من يقومون بذات الفعل المقاوم بأنهم إرهابيون؟ وسيبدو الأمل ضعيفاً بتحول البحر المتوسط إلى بحيرة محبة وتعاون وسلام كما نحلم، وكما دعونا منذ عقود، مادامت الأساطيل العسكرية والغواصات النووية تقف قبالة شواطئنا تهدد شعوبنا وتنذرها بالحروب، إننا نريد أن يرسل إلينا الغرب الشريك الكتب والموسيقى والأفلام السينمائية، لا أن يرسل الأساطيل والقوى المدمرة التي تهدد أمن شعوبنا ومستقبلها.
ويبدو من إشكاليات التواصل الراهنة ما تشهده بعض دول أوروبا من حملات معادية للعرب والمسلمين، حيث تبدو المواقف الرسمية دون الحد المقبول في مواجهة هذه الهجمة المنظمة من قبل الصهيونية، فهي ليست حملات عفوية، بل هي مفتعلة يقودها برنامج سياسي عند متطرفين يريدون إشاعة مشاعر العداء ضد العرب والمسلمين المقيمين في أوروبا، ونحن نعلم أن إسرائيل كانت تشكو من حملات معادية للسامية، وهي في حقيقتها كانت حملات معادية للاحتلال الإسرائيلي وممارساته ضد شعب فلسطين، ولاسيما حين قام شارون بسحق جنين، وبتدمير البيوت فوق رؤوس أصحابها، وحين نفذ خطة إبادة ضد الشعب الفلسطيني، يومها خرجت صيحات إنسانية من أوروبا تستنكر هذه الهمجية، بل إن استطلاعات الرأي عبرت عن قلق أوروبي شعبي من خطر إسرائيل على السلم الدولي، وقد وضعت إسرائيل ميزانية ضخمة أغرقت بها وسائل إعلام قابلة للبيع كي تحول الحملة المعادية لسلوكها غير الإنساني إلى هجمة على العرب والمسلمين، ومن يتذكر تفاصيل فتنة الحجاب في فرنسا، وفتنة الرسوم في الدانمرك يدرك أن وراء هذه المواقف والهجمات خططاً مدروسة لتوجيه الرأي العام ، وستبدو الدعوة إلى الاعتراف الثقافي بالآخر منقوصة إنْ لم يتم الاعتراف بالدين الإسلامي، فتقديم صورة سيئة لنبي المسلمين في الصحافة الأوروبية والمتوسطية وفي الكتابات والفنون سيجعل الاعتراف بالآخر واحترام الخصوصية الثقافية بعيد المنال ولا سبيل للوصول إليه، بل إنه سيدعو إلى التوتر وإلى الصدام الثقافي الذي تلهث الصهيونية كي تحرق البشرية في نيرانه.
إن أخطر ما ينبغي أن يواجهه الحوار الأورو-المتوسطي هو الموقف المستجد في بعض مناحي الثقافة الأوروبية من المهاجرين العرب والمسلمين في أوروبا، حيث تعلو دعوات المتطرفين لإشاعة روح الكراهية والتنابذ بين الثقافات.
لقد ذكرت زملائي الوزراء الحاضرين بأن العرب شركاء مؤسسون للحضارة في المتوسط ، فمن سوريا انطلق الفينيقيون وبنوا على شواطىء المتوسط مدنهم التي قدمت أولى الحضارات للبشرية، كما أن الأديان السماوية الثلاثة ولدت في أرضنا العربية، وحين جاء الإسلام تمت أضخم عملية شراكة حضارية تاريخية بين العرب وأوروبا، ما تزال تعبر عنها الآثار والشواهد الحية في جنوب إسبانيا حيث تجربة الأندلس الفريدة في التعايش بين الأديان والملل والنحل، وحيث الصورة المشرقة للإسلام الذي يعترف بكل ما سبقه من رسل وأديان وكتب سماوية، وما يزال إلى اليوم ينتظر منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام اعترافاً مماثلاً.
وتبدو الإشارة ضرورية إلى ما يحدث أحياناً في أوروبا من استلهام ثقافي من الحروب الصليبية التي كانت عدواناً غير مبرر على العرب والمسلمين، وقد سمي هذا الاستلهام الراهن (زلات لسان) حين ردده قادة غربيون كبار، ولكن النتائج العسكرية لهذه الزلات تجعل الشعوب العربية تخشى أن تكون الحروب الصليبية ما تزال ملهمة حقاً لقادة ومنظرين وسياسيين في الغرب، وقد أتيح لي أن أحضر بعض نشاطات هذا الاستلهام وسط أوروبا وكانت مفاجأتي ضخمة بما سمعت ورأيت.
إنني أثير هذه الإشكاليات القائمة، لأنني شديد الرغبة في تحقيق حوار جاد بين الثقافات في العالم كله، وليس فقط بين الاتحاد الأوروبي وبين شعوب جنوب أو شرق المتوسط، ولن يصل هذا الحوار إلى غاياته النبيلة ما لم ينته الاحتلال الاستيطاني الذي ينتمي إلى عصور متخلفة، وما لم تتوقف إسرائيل عن سلوكها العنصري، وما لم تتحرر الأرض العربية المحتلة وفق ما نصت عليه الشرعية الدولية، وهذا لا يعني أن نتوقف عن الحوار الراهن، فنحن مشاركون مؤسسون فيه، ولكننا نذكر حكماء أوروبا وعقلاءها بأننا أصحاب حق فيما ندعو إليه، ونحن الذين بادرنا إلى إطلاق الدعوة إلى الحوار لمواجهة من كانوا يروجون لصراع الحضارات ونهاية التاريخ.