في هذه الدراسة الكاشفة وبالغة القيمة لقرنين من الزمان سادت خلالهما الأفكار المناوئة للغرب، يذهب إيان بوروما الأستاذ بجامعة (بارد) بالولايات المتحدة، وأفيشاي مارجاليت، أستاذ الفلسفة بالجامعة العبرية بالقدس.. وهما مؤلفا الكتاب الذي نقوم بعرضه هنا وعنوانه (علم الاستغراب: الغرب كما يبدو في عيون أعدائه)..إلى القول إننا معشر القراء ننظر بشكل عام إلى ما يطلق عليه (الإسلام الراديكالي) على أنه ظاهرة إسلامية بحتة، في حين أنه ليس كذلك، وإنما هو موروث في الحقيقة عن الغرب. وأنه بصرف النظر عما يمثله تنظيم "القاعدة" وغيره من التنظيمات المماثلة أو التابعة، وعما تعلنه تلك التنظيمات من شعارات، وما تتبناه من استراتيجيات، فإنها في جوهرها عبارة عن حركات سياسية ثورية مناوئة للغرب، ويبين بوروما ومارجاليت، أن البعبع الغربي الذي يسيطر على أذهان تلك التنظيمات هو نفسه البعبع الذي سيطر على أذهان الكثير من الجماعات والتنظيمات الثورية الأخرى، التي يعود تاريخ عدد كبير منها إلى بدايات القرن التاسع عشر. ويذهب المؤلفان إلى القول إنه على رغم أن تلك التنظيمات بشكل عام، تتصف بروح العداء للغرب بصفة عامة، وللولايات المتحدة بشكل خاص، فإن ذلك العداء في حقيقته ليس إلا التجلي الأحدث من تجليات ظاهرة امتدت لفترة طويلة، وانتشرت إلى مناطق عديدة في العالم، وذلك كرد فعل على صعود ظاهرة الحداثة الغربية. فالرومانسيون الألمان، في رد فعلهم على عصر التنوير، وصعود الرأسمالية كنمط إنتاج بديل للإقطاع، مثلوا تعبيرا عن تلك الظاهرة.. وذلك حينما قاموا برفض حضارة أوروبا الجديدة، التي انبثقت في ذلك الوقت، والتي أطلقوا عليها وصفا دالا هو (حضارة الآلة) التي تتسم بالتفكير المنطقي البارد، وتغليب النزعة المادية على النزعة الروحية، وتوسع المدن على حساب الريف، ونشوء ظاهرة ( الكوزموبوليتانية) أي ظهور المدن الضخمة التي تضم أفرادا من مختلف الأجناس والثقافات والأديان. من هذه النقطة أي نقطة نقد الرومانسيين الألمان لأوروبا الجديدة عقب الثورة الصناعية. بدأ العالم يرى تجليات عديدة لظاهرة الاستغراب منها، سيادة النمط المديني أي نمط الحياة في المدن الذي يتصف بانقطاع جذور الأفراد الذين يسكنون تلك المدن عن جذورهم الأصلية، وتفشى الفساد والرذيلة في تلك المدن على حساب القيم والأخلاقيات الريفية التي سادت أوروبا قرونا طويلة من قبل، وكذلك فساد روح البشر، وفقدانهم للبراءة، وتفرغهم لتحقيق المصالح المادية وإشباع النزعات الاستهلاكية، وتداخل الدين مع السياسة، وقيام بعض رجال الدين باستخدام مناصبهم الكنسية، في لعب أدوار سياسية، وبداية ظهور أفكار الملكية الجماعية الجذرية التي كانت تمهيدا لظهور الشيوعية فيما بعد. ويقوم المؤلفان بتخصيص فصل للحديث عن صراع روسيا الطويل مع الغرب، والذي ينبع هو الآخر في الأصل من الرومانسية الألمانية بروحها الوطنية الجريحة.
ويذهب المؤلفان إلى أن شيوع تلك المظاهر في أوروبا في ذلك الوقت، يدحض الطرح الذي يطرحه الغربيون حول سعيهم إلى تحقيق اليوتوبيا، أو المدينة الفاضلة، لأن كل مظاهر الواقع الجديد كانت تشي بالعكس من ذلك تماما. إن الصورة التي تطل علينا من ثنايا هذا الكتاب في النهاية، ليست هي الصورة التي خطرت على أذهاننا عندما طالعنا عنوان الكتاب للوهلة الأولى. فليس هناك على سبيل المثال ما كنا نتوقع قراءته عن الصراع بين الحضارات. وليس هناك حديث عن تلك التوترات العميقة الراسخة الجذور القائمة بين الحضارات بعضها مع بعض. علاوة على ذلك فإن هناك بعض الأسئلة التي خطرت على أذهاننا، وكنا نعتقد أن الكاتبين سيقومان بطرحها، ومنها على سبيل المثال السؤال المحوري الذي يقول: ما الذي يستطيع الغرب أن يفعله لمواجهة ظاهرة الاستغراب؟ لم يطرح الكاتبان هذا السؤال على رغم أن منهج الكتاب ذاته كان محتما أن يقودهما إلى طرحه في النهاية، وإلى البحث عن إجابه عليه.
والسؤال المتعلق بما إذا كان الاستغراب، أو كره الغرب-كما يعتنقه جهاديو اليوم- سوف ينتهي باعتناق الحداثة، كما انتهت ظاهرة الاستغراب في أوروبا باعتناق الحداثة الأوروبية في القرن التاسع عشر.. يعتبر هو السؤال الكبير في عصرنا الحالي. وبوروما ومارجاليت لا يغامران بتقديم إجابة على هذا السؤال، ولكن دراستهما الخلاقة تظهِر، مع ذلك، أنه وفي جميع الأحوال، فإن الأمر لابد أن يتمخض في النهاية في دراما تاريخية، طويلة وعنيفة.
كتاب جيد، يقدم رؤية جديدة لم يقدمها الكثيرون من قبل وهي تلك التي تقوم بإرجاع ظاهرة الاستغراب أو العداء للغرب إلى الغرب ذاته. ومما يحسب للمؤلفين تميزهما بروح التجرد، وخلوهما من مشاعر التعصب الثقافي والديني، الأمر الذي مكنهما من تقديم دراسة منصفة لهذا الموضوع، أضفت على كتابهما مصداقية لا تحظى بها عادة الكتب المماثلة التي تتناول موضوع الاستغراب، أو المعادل الموضوعي له وهو الاستشراق. والتي تتسم عادة بالتحيز وعدم الإنصاف، وعدم الاستعداد لسماع ما يقوله الطرف