يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك عدد محدود للغاية من اللغات البشرية بل وربما لغة واحدة فقط. وإذا ما كان الأمر كذلك، فإن الستة آلاف لغة تقريبا التي يتم التحدث بها في الوقت الحاضر في مختلف أصقاع العالم لابد وأن تكون قد انحدرت من تلك اللغة. وإذا ما أمكنت إعادة بناء شجرة تلك العائلة اللغوية البشرية، وتحديد تواريخ التفرعات التي انبثقت منها، فإن ذلك سيعني فتح نافذة جديدة ورائعة يمكننا أن نطل منها على التاريخ الإنساني.
بيد أنه وحسب العديد من علماء اللغة، فإن احتمالات رسم هذه الخريطة تساوي صفرا من الناحية العملية. السبب في ذلك هو أن اللغات تتغير بشكل سريع، إلى درجة أن تركيباتها الجينية لا يمكن تتبع آثارها إلا لعدة آلاف من السنين فقط. وقد اجتذبت المشكلة التي يعاني منها اللغويون في هذا الصدد، مجموعة جديدة من الباحثين الذين يحدوهم أمل أكبر في النجاح. وهذه المجموعة تضم علماء بيولوجيين قاموا بتطوير أدوات خاصة بعلم الرياضيات، يمكن من خلالها رسم شجرة العائلة الخاصة بالجينات والأنواع. ونظرا لأن المشكلة نفسها تقريبا تبرز في الشجرة الجينية والشجرة اللغوية، فإن علماء البيولوجيا هؤلاء واثقون من أن أدواتهم سوف تنجح مع اللغات أيضا. وتمثلت آخر هجمة شنها البيولوجيون على ملعب اللغويين، في قيامهم بإعادة تركيب عائلة من اللغات الهندو – أوروبية بواسطة الدكتور راسل دي. جراي، وهو بيولوجي يعمل في جامعة أوكلاند في نيوزيلاندا.
والنتائج التي توصل إليها الدكتور جراي وتم نشرها في مجلة "نيتشر" لها مضامين رئيسية لعلماء الآثار وعلماء اللغات، وذلك إذا ما ثبتت صحتها.
شكل الشجرة ذاتها ليس فيه ما يثير الاندهاش حيث يقوم جراي بترتيب اللغات الهندية والأوروبية بنفس الطريقة تقريبا التي يقوم بها اللغويون بذلك، وعن طريق استخدام طرق المقارنة والقياس التقليدية. ولكن الجديد أن التواريخ التي يضعها على الشجرة أقدم بكثير جدا مما كان يعتقد علماء اللغة.
في هذا السياق يقول الدكتور دون رينج، عالم اللغويات بجامعة بنسلفانيا، والذي يهتم اهتماما خاصا بتقسيم اللغة وصبها في نماذج أو قوالب عن طريق الكمبيوتر أن النهج الذي اتبعه الدكتور جراي وهو المعروف باسم الجلوتوكرونولوجي glottochronology (الطريقة التقليدية التي كان يتم بها تحديد التواريخ التي انتشرت بها اللغات) قد فشل في تحقيق الآمال المعقودة عليه.
ويذكر أن "الجلوتوكرونولوجي" كان قد تم اختراعها على يدي عالم اللغويات موريس سواديش الذي توفي عام 1952. ويذكر أن هذه الطريقة تقوم على تصنيف مجموعة من الكلمات تعتبر بمثابة النواة ويتراوح عددها ما بين 100 إلى 200 كلمة ثم القيام بعد ذلك بالمقارنة بين اللغات على أساس عدد الكلمات ذات الجذر الواحد التي تنتمي في الأصل إلى قائمة الكلمات الجوهرية أو النواة التي وضعها سواديش. وكلما ازداد عدد الكلمات ذات الجذر الواحد التي تشترك فيها لغتان من اللغات، كلما كان معنى ذلك أن هاتين اللغتين قد انشقتا عن بعضهما بعضاً في فترة حديثة. بعد ذلك حاول سواديش وغيره، معالجة هذه الطريقة كميا، باستمداد التاريخ الذي انفصلت فيه لغتان معينتان عن طريق استخدام النسبة المئوية للكلمات ذات الجذر الواحد التي تتقاسمانها. وقد حققت تلك الطريقة نتائج مذهلة بسبب سهولتها، ولكن المشكلة تمثلت في أن النتائج التي توصلت إليها لم تكن كلها صحيحة. لقد كانت "الجلوتوكرونولوجي" تعاني من عدة مشكلات: فهي من ناحية تفترض أن اللغات كانت تتغير بمعدل ثابت، وأنها كانت معرضة لعمليات نقل واقتباس لا نهاية لها، مما كان يجعل مثل تلك اللغات تبدو أكثر قربا من بعضها بعضاً مما هي عليه في الحقيقة.
وبسبب هذه المشكلات وغيرها، فإن علماء اللغة قرروا التخلي عن هذه الطريقة، والاتجاه إلى طريقة جديدة مبتكرة في تحديد تواريخ انتشار اللغات في منطقة معينة، وهي طريقة (الحفريات اللغوية).
الفكرة التي تقوم عليها هذه الطريقة هي استنباط كلمات لأنواع معينة من الأشياء السائدة في الثقافة المادية للغة من اللغات المبكرة، ثم القيام بعد ذلك بالربط بينها وبين شكل تلك المواد كما يبدو في السجلات الأثرية. فالكلمات ذات الجذر الواحد التي استخدمت للتعبير عن كلمة (عجلة مثلا) توجد في الكثير من فروع شجرة اللغة الهندو – أوروبية. من ذلك على سبيل المثال كلمة Keklos التي يعتقد أنها أصل كلمات مثل Chakra التي تعني عجلة أو دائرة في اللغة السنسكريتية، وكلمة Kuklos التي تعني عجلة أو دائرة في اللغة الإغريقية، وكلمة Wheel في اللغة الإنجليزية.
من المعروف أن رسوم أول عجلات قد ظهرت في السجلات الأركيولوجية منذ 5,500 عام. ومن هنا يمكن التوصل إلى أن اللغة الهندو أوروبية الأصلية ما كان يمكن لها أن تبدأ في الانشقاق إلى اللغات الشقيقة، قبل ذلك التاريخ بزمن طويل. ويذكر أن التواريخ المحددة على الشجرة اللغوية للدكتور جراي تزيد على التواريخ التي توصل إليها العلماء والباحثون بأكثر من 2000 عام على الأق