في عام 1997، تم إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين الزعيم الروحي لحركة حماس من أحد السجون الإسرائيلية حيث قضى ثمانية أعوام من أصل حكم بالسجن المؤبد. وفور عودة الشيخ ياسين إلى غزة، نقله مستقبلوه من طائرة الهيلوكبتر إلى مخيم اللاجئين في مدينة خان يونس، حيث وقفت أنا بين الآلاف من مؤيديه المنتشين بعودته. كان المشهد جامحاً وشديد التأثير، إذ كان أتباع الشيخ ياسين ينشدون ويهتفون فرحاً في السيارات ووسائل النقل مع حمل الشيخ في كرسيه المتحرك ليعتلي منصة مزينة بصور الهجمات الفلسطينية الدامية على إسرائيل. وقد ذهبتُ بعد مضي أسابيع إلى زيارة الشيخ أحمد ياسين في بيته البسيط المؤلف من طابق واحد في آخر زقاق قذر يعج بالغبار في مدينة غزة. وقد جلس آنذاك في كرسيه المتحرك في طرف الغرفة الواسعة، ورأسه مغطى بغطاء فضفاض من القماش الأبيض الذي يخلو من أية تزيينات. كانت قدماه مستريحتين في خف جلدي بنيّ اللون ويشبه تماماً ذلك الخف الذي تركه وراءه يوم أول من أمس الاثنين حين وجدت ثلاثة صواريخ إسرائيلية هدفها فقتلته وسبعة آخرين.
كان الشيخ أحمد ياسين شخصية مثيرة للقلق في ذلك اليوم من عام 1997. كان يتحدث بصوت حاد من طبقة مرتفعة، وكان فيه ما هو أقرب إلى القهقهة حين شرع في توجيه الانتقادات الحادة إلى إسرائيل وأقسم وحلف أنه لم يكن على علم بالتخطيط العسكري لحركة حماس. قال إنه زعيم الحركة الروحي، لكنه بالطبع اعتبر أن العنف مبرّر لتحرير بلده المحتل. كان الشيخ أحمد ياسين يُميل رأسه لينصت إلى أسئلتنا التي طرحناها عليه باللغة الإنجليزية، وكانت عيناه تشعّان بالذكاء وهو يردّ باللغة العربية على أسئلتنا من خلال المترجم. لقد كانت ظروف إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين آنذاك مرتبطة، ككل شيء في حياته، بالعلاقات المتأرجحة ما بين صعود وهبوط بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فما هو السبب الذي يدفع حكومة إسرائيلية إلى تحرير رجل صدر بحقه حكم بالسجن مدى الحياة بسبب إصداره أوامر بتنفيذ عمليات قتل جنود إسرائيليين وأشخاصاً فلسطينيين يُشتبه بتعاونهم مع الاستخبارات الإسرائيلية؟
ربّما يكون ما لوى ذراع إسرائيل آنذاك هو سيناريو شبيه بسيناريوهات سلسلة أفلام "شرطة كي ستون" الكوميدية الصامتة، وربما يكون ذلك من تواقيع مخيلة المؤلف والكاتب الشهير جون لي كار. ففي العاصمة الأردنية عمّان، وفي 25 سبتمبر من عام 1997، خرج خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس من سيارته فتعرض لهجوم من شخصين قام أحدهما بغرز إبرة اخترقت الجلد خلف أذن خالد مشعل اليسرى فأودت به إلى غرفة إسعاف في عمّان حيث شارف على الموت. وقام الحارس الشخصي المرافق لخالد مشعل، وهو الذي لم يُصب بأذى، بالقبض على المهاجمَين. وفي اليوم التالي، كشف الأردنيون أن الرجلين من عملاء الموساد. ولتأمين إطلاق سراح العميلين، تعرّض رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو لضغوط من الملك حسين لإطلاق سراح أحمد ياسين بالإضافة إلى ستين سجيناً فلسطينياً غيره. في نهاية المطاف، نجا خالد مشعل من الموت. وفي الحقيقة أن الإسرائيليين كانوا يبحثون عن سبيل يحفظ ماء وجههم ويؤدي بهم إلى إطلاق سراح أحمد ياسين.
فبوجود أحمد ياسين في السجن، وجد الإسرائيليون أنفسهم مسؤولين عن عجوز مشلول وعاجز في الستين من عمره وفي حالة صحية سيئة مرشحة للتدهور.
إنه رجل ازدادت شهرته واحترامه بين الفلسطينيين مع مضي كل يوم قضاه في السجن الإسرائيلي. وقد كانت الحكومة الإسرائيلية قلقة من احتمال وفاة الشيخ في أية لحظة في السجن الذي جعله يتحول إلى أسطورة. وما من شك في أن أحمد ياسين كان ثاني أشهر وأحبّ زعيم لدى الفلسطينيين بعد ياسر عرفات. فعلى رغم كل شيء، لم ترغب إسرائيل في تحويله إلى شهيد. لكنها فعلت ذلك الآن، وبطريقة أكثر وضوحاً بكثير ممّا لو مات الشيخ لأسباب طبيعية خلف قضبان السجن الإسرائيلي. لقد تحول إلى شهيد حتى إذا قلنا إنه لم يكن رجلاً صالحاً، وإنه كان يقدم العون لأشخاص عازمين منكبين على القتل، وإن حركة حماس دأبت على تنفيذ أعمال الإرهاب الشريرة اللاإنسانية على مدى سنوات بمباركة من ياسين.
وعلى رغم ذلك، يشكّل قيام الإسرائيليين بقتل الشيخ أحمد ياسين تمزيقاً لا رجعة فيه أتى على ما بقي من إمكانيات تحقيق السلام. فعملية الاغتيال هذه تأتي في لحظة خطيرة وعقيمة انعدم فيها احتمال التواصل بين طرفي النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي. وحتى إذا أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي عزمه على الانسحاب الأحادي من غزة، فلا شك في أنه دأب على التخطيط لهذا الهجوم الذي استهدف أحمد ياسين. وعلى رغم أن شارون تناول طعام الغداء على شاطئ البحر منذ أيام قليلة مع ابن الملك حسين، أي مع الملك عبد الله، فلا شك في أن توقيت هجومه هذا على ياسين كان مقرراً ومحدداً.
ويتعجب المرء هنا حيال شارون الذي توخى الحذر في خضم كل هذا العنف فلم يتعرض لياسر عرفات بالأذى. فما الذي يا تُرى خطر في خياله عندما أصدر أوامره إلى جنوده ليقترفوا عملاً كهذ