ستون عاماً من الإرهاب المنظّم
افتتح الرئيسان الإسرائيلي شيمون بيريز والفرنسي نيكولا ساركوزي معرض الكتاب السنوي في باريس، وكانت إسرائيل ضيف شرف. استُقبل "بيريز" بحفاوة استثنائية سبقتها تصريحات واقتراحات ومبادرات لنظيره الفرنسي أكدت التزاماً فرنسياً مطلقاً بإسرائيل التي أعلن قادتها إصرارهم على يهوديتها. شوارع باريس الرئيسية ازدانت بالأعلام الإسرائيلية، ومساحات المعرض تميزت باليافطات والملصقات والشعارات المرحبة بـ"بيريز" والداعية إلى حماية إسرائيل. وكان نقاش كبير في باريس وخارجها لم يتوقف بعد حول مقاطعة غالبية العرب للمعرض ورفض بعض اليهود "المنفتحين" -إن صح التعبير- المشاركة فيه أيضاً، لأن إسرائيل دُعيت كضيف شرف في الذكرى الستين لتأسيسها.
الشاعر الإسرائيلي "آهارون شبتاي" برر مقاطعته بالقول: "إن دولة تُديم احتلالاً عسكرياً وترتكب مجازر بحق المدنيين، لا تستحق أن تُدعى إلى أي تظاهرة ثقافية أياً كان طابعها، ولن نقبل أن نحسب جزءاً من إسرائيل هذه، اللاديمقراطية وبلد التمييز العنصري".
المؤرخ الإسرائيلي "إيلاف بابيه"، صاحب كتاب:"التطهير العنصري ضد الفلسطينيين" قال: "إننا على حق في القول إن الاعتداءات الإبادية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، تدعو المثقفين والفنانين والكتاب التقدميين إلى مقاطعة المعرض، كي لا نشارك في احتفائه بإسرائيل وإنكاره التام للنكبة الفلسطينية".
الكاتب الإسرائيلي العربي "سايد قشوعة" قال "آمل أن تزدهر مقاطعة الكيان الصهيوني، وأن نحبس الكتاب الإسرائيليين في الفندق الباريسي الأكثر عفناً، وأن نفرض حظر التجول، وأن نقطع التيار الكهربائي، وهكذا قد يذوقون بعضاً مما يحدث في غزة".
كثيرة هي المواقف والتعليقات المعبرة عن تأييد المقاطعة. لكن الكاتب "ماريك هالتر" المختص بالأديان، اعتبر المقاطعة نوعاً من اللاسامية، وطالب عبر صحيفة "لوموند" بالنجدة لأنهم، أي دعاة المقاطعة، يحرقون الكتب.
وفي "لوموند" أيضاً قالت الكاتبة "كارولين فورست": "إن العمال السود الذين يفضلون المشي بدل استخدام باصات ودفع المال لها، وهي التي أوقفت ذات يوم سيدة سوداء تُدعى روزا باركس، لأنها تجرأت وجلست على أحد المقاعد المخصصة للبيض، هؤلاء يستحقون التحية ومقاطعتهم الباصات تعتبر نوعاً من التقدم ومظهراً من مظاهر التحرر".
في الواقع لا يستطيع أحد أن يقاطع فكراً أو كلمة. الكلمة أقوى من كل شيء. قد تتمكن آلة القمع والإرهاب من قتل مفكر وكاتب وشاعر وسياسي حر، لكنها، وعلى مرّ التجارب في التاريخ، لا تنال من فكر وكتابة وكلمة وحرية الشهيد، وبالتالي فإن مقاطعة معرض الكتاب لهذا العام في باريس ليست لا سامية على الإطلاق، وليست موقفاً من كلمة أو كتاب أو كاتب حتى ولو كان متطرفاً، ونحن نقرأ له لنتعرف على ما يمثل، خصوصاً عندما يكون مدافعاً عما يجب أن نتعرف عليه وأعني عدونا.
المقاطعة هي رفض لتكريم دولة إسرائيل في الذكرى الستين لتأسيسها، وهي أمضت ستين عاماً في ممارسة إرهاب الدولة المنظم، وهي اليوم تمارسه في غزة وكل فلسطين تقتل وتهجّر وتدمّر وتحاصر وتمارس كل الممارسات المنافية لحقوق الإنسان وشرعة الأمم المتحدة، وكل الشرائع والأعراف والقوانين والقرارات الدولية، وتنسف كل محاولات الوصول إلى تسوية.
يتحدث البعض عن أن المقاطعين يحرقون الكتب. فماذا يقولون عن الذين يحرقون الأرض والكتب والمكتبات والآثار والبشر في فلسطين؟ هل فعلهم هذا حلال وعمل إنساني متقدم؟ أما مقاطعة رموز هؤلاء الإرهابيين وحفل تكريمهم فهو عمل مدان؟
وإذا كانت الكاتبة "فورست" تحيي العمال في مقاطعتهم لشركة باصات لأنها أوقفت سيدة سوداء احتلت مقعداً مخصصاً في الباص للبيض، فهل نعيب على العرب والفلسطينيين خصوصاً مقاطعتهم لإسرائيل ومعرضها بحضور رئيسها، وفي ذكرى قيامها الستين، وهي التي احتلت أرضهم ولا تزال تريد التوسّع وتمارس سياسة التمييز العنصري ضدهم؟
عندما يخرج إسرائيليون من داخل الدولة المكرمة في ذكرى "ميلادها" الستين، وهي قامت على الاغتصاب، ويشيرون إلى أنه لا يجوز الاحتفال بهذه الذكرى دون تذكر الشعب الفلسطيني صاحب الحق في الحياة أيضاً، والذي يعاني منذ ستين عاماً. أفلا يحق للفلسطيني والعربي مثقفاً وكاتباً وشاعراً أن يقاطع حفل تكريم دولة بهذا الشكل، وفي عاصمة الحرية باريس؟ وماذا ننتظر من هؤلاء عندما نسمع إصراراً من قادة إسرائيل على يهودية "دولتهم" ونرى تأييداً لهم من قادة الغرب عموماً وأميركا وفرنسا خصوصاً؟ اليوم نشهد اندفاعاً نحو تلك الدولة لحمايتها وتوفير المزيد من الدعم لها، وفرض تدريس المناهج العنصرية في المؤسسات التربوية في بلاد المندفعين، فيما نرى تدميراً للمؤسسات التربوية الفلسطينية وحرماناً للشعب الفلسطيني من أبسط مقومات العيش الكريم وحق التعلم؟
إنه لأمر مذل أبسط ما يمكن فعله في مواجهته هو استخدام الكلمة وحق قولها وتعميمها واعتمادها سلاحاً لا مواد نووية فيها كما في ترسانات إسرائيل العسكرية وليست قنابل عنقودية ومواد سامة كما تفعل إسرائيل وتستخدم في مواجهة الشعب الفلسطيني المقهور.
مقاطعة معرض الكتاب هذا العام في باريس هي مقاطعة للإرهاب وليس للكتاب بحد ذاته، وموقف من السياسة الفرنسية الداعمة دون حدود للسياسة الإسرائيلية، الأمر الذي يعيق إمكانية التوصل إلى سلام ويشعر الفلسطينيين بنوع من فقدان الأمل من عاصمة الحرية والعدالة والمساواة.
إذا كانت هذه المقاطعة قد استوجبت مثل هذه الضجة، فهل يؤخذ على أصحابها رد الفعل هذا في مقابل الفعل الإسرائيلي اليومي في قطع آمال التسوية وتقطيع أوصال فلسطين؟
ستون عاماً من الإرهاب المنظم لا تستحق إسرائيل عليها أي تكريم لا في معرض الكتاب، ولا في معرض الحديث بالتأكيد عن حقوق الإنسان ورفض المجازر والمحارق، في وقت يدعو المسؤولون الإسرائيليون إلى ممارسة سياسة المحرقة بحق الفلسطينيين الأبرياء.