المجتمعات الاستيطانية (سواء في أميركا الشمالية أو في جنوب أفريقيا) مجتمعات ذات طابع عسكري بسبب رفض السكان الأصليين لها. وإسرائيل لا تشكِّل أيَّ استثناءً من هذه القاعدة، فهي مجرد تحقُّق جزئي لنمط متكرر عام. وقد ظهرت منظمات ومؤسسات وميليشيات عسكرية قبل عام 1948 دُمجت كلها في مؤسسة واحدة، هي المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي أصبحت العمود الفقري للتجمُّع الاستيطاني الصهيوني. ويتميَّز المجتمع الإسرائيلي بصبغة عسكرية شاملة نظراً لأن جميع أفراده يؤدون الخدمة العسكرية الإلزامية، فمعظم أفراد الجيش من جنود الاحتياط، ولذا يصف الإسرائيليون أنفسهم بـ"الأمة المسلحة"، وكما قال أحد المعلقين: "كل الشعوب لها جيش، أما نحن فجيش له شعب". كل هذا يجعل تعيين الحدود بين المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والحياة المدنية أمراً بالغ الصعوبة، ويجعل من الصعب التمييز بين المدنيين والعسكريين، ويصبح في حكم المستحيل العثور على حدود فاصلة بين النخبة السياسية والنخبة العسكرية، إذ يتبادل أفراد النخبتين الأدوار ويقيمون التحالفات في الأحزاب و"الهستدروت" والكنيست وغيرها من المنظمات. وتُشكِّل وزارة الدفاع الإسرائيلية مركزاً لقوة سياسية واقتصادية واجتماعية لا مثيل لها في العالم -فيما عدا استثناءات قليلة- ويرجع هذا للدور التاريخي للوظيفة العسكرية التي صاحبت نشأة الكيان الاستيطاني الصهيوني، وهو ما جعل عسكرة المجتمع الإسرائيلي في جميع المجالات مسألة حتمية. وتتناول الصحافة الإسرائيلية بين الحين والآخر هذه العلاقة الشائكة، ففي مقال بعنوان "إسرائيل دولة مدنية أم عسكرية؟" (يديعوت أحرونوت 31 ديسمبر 2007) يؤكد "يونتان يفين" أن إسرائيل ليست دولة مدنية، بل دولة عسكرية، وهذا وضع لا يستحق العيب عليه ولا الرثاء البطولي، فهو الوضع (القائم) ببساطة، من الممكن والموصى به محاولة نسيانه أحياناً عند شرب القهوة أو مشاهدة فيلم في السينما، لكن لا يحل إدمان الكبت، بحيث نسأل بعد ذلك ماذا تستطيع الدولة أن تفعل من أجلنا وبقدر أقل ما الذي نستطيع فعله من أجل الدولة؟". ويقول الكاتب "أوري أفنيري"، عضو الكنيست السابق، في مقال له بعنوان "كلّل حديثك بالورود" (الموقع الإلكتروني ليوري أفنيري 3 نوفمبر2007) إن ديفيد بن جوريون منذ تأسيس الدولة، قد رسم الخطوط التي تدار بموجبها الدولة ليومنا هذا. فحتى يومه الأخير في الحكم كان يؤدي وظيفة رئيس الحكومة ووزير الأمن كذلك، ولم يكلف نفسه عناء إخفاء ازدرائه لوزارة الخارجية. وتماشى ذلك مع قوله المعروف: "ليس من المهم ما يقوله غير اليهود، بل المهم ما يفعله اليهود"!. وقد شاركه الجيل الأول بأكمله في ذاك الازدراء. وظهر تقسيم للأدوار، فالرجال الحقيقيون، الناطقون باللهجة المحلية، تم تجنيدهم في الجيش، وتحولوا إلى أبطال وعملوا في وزارة الأمن. أما الرجال "النواعم" أصحاب اللكنة الإنجليزية أو الألمانية فقد عملوا في وزارة الخارجية، ومن ثم تحولوا إلى سفراء أو موظفين. ولموازنة المؤسسة العسكرية بمؤسسة مدنية تساويها في القوة، حتى يتسنى للتجمع الصهيوني أن يخرج من ورطة العسكرة الدائمة، يقترح "أفنيري" فكرة إنشاء "رئاسة أركان بيضاء" لشنّ حملات للسلام في مقابل رئاسة الأركان الكاكيّة، التي تشن الحملات الحربية. فـ"كما أن رئاسة الأركان الكاكية من وظيفتها تخطيط برامج مستقبلية، لأي احتمال حربي، يجب أن تخطط رئاسة الأركان البيضاء برامج مستقبلية لأي احتمال سلمي. يجب أن تشمل رئاسة الأركان هذه، خبراء في الشؤون العربية، دبلوماسيين، علماء نفس، علماء اقتصاد، رجال استخبارات وما شابه". وهو ما أكده "عكيفا الدار" المراسل السياسي لصحيفة (هآرتس 8 يناير2007) قي مقال بعنوان "المشكلة لا تكمن في بيرتس وحده وإنما في المرض المزمن المتمثل بسيطرة المستويين العسكري والأمني على السياسي مهما بلغت قوته". فبعد أشهر طويلة كان فيها أمن الدولة مهدوراً بيد رئيس حكومة تاجر (أولمرت) ووزير دفاع مبتدئ (بيريتس)، سيجلس في مقر وزارة الدفاع في تل أبيب قائد عسكري متفوق وصاحب خبرة في المعارك (باراك). ورغم تفاؤل الكاتب بمجيء "إيهود باراك" لمنصب وزير الدفاع فإنه حذر من "أن الماضي غير البعيد يشير إلى أن الخلاص لن يأتي من استبدال عمير بيرتس بجنرال أو بأدميرال، طالما بقيت العلاقات غير السليمة التي كانت سائدة بين المستوى السياسي وقيادة الجيش". "فأولمرت وبيرتس سقطا ضحية للمرض المزمن نفسه الذي عانى منه رئيس الوزراء ووزير الدفاع باراك، شأنه في هذا شأن أغلبية من سبقوه، ومن أتوا بعده. التجربة العسكرية لم تُحصن حتى بطل إسرائيل آرييل شارون ووزير الدفاع في حكومته العميد المتقاعد بنيامين بن إليعيزر من متلازمة الذيل العسكري الذي يضرب مؤخرة الكلب السياسي". واختتم الكاتب مقاله بقول معبر "كلنا ندفع ثمن فقدان السيطرة على هيئة الأركان". ورغم عسكرة المجتمع الإسرائيلي على المستويين السياسي والاقتصادي فإن مكانة المؤسسة العسكرية قد اهتزت كثيراً في الآونة الأخيرة بعد هزيمتها على يد "حزب الله في لبنان، وهذا ما أكده تقرير "فينوجراد". إلا أن تراجع مكانة المؤسسة العسكرية حدث قبل ذلك بكثير. فرغم أن هذه المؤسسة تدّعي أنها تشكِّل وحدة متماسكة إلا أن العنصر الإشكنازي هو العنصر المهيمن فيها، هيمنته على الدولة الصهيونية ككل. فالسفارديم واليهود الشرقيون وضعهم متردٍ، رغم تصعيد نفر قليل منهم للمناصب القيادية. وهي مسألة تطرح إشكالية هوية الدولة والمجتمع الاستيطاني بقوة عبّر عنها مؤخراً الكاتب "يونتان يفين" في المقال الذي أشرنا له سابقاً. يشرح "يفين" حالة الانقسام التي تعتري المجتمع الإسرائيلي فيقول:"لسنا جيدين في أمور كثيرة (على رغم أنه يخيل إلينا أننا الأفضل)، لكن لا يوجد منافسون لنا بين أمم العالم في شيء واحد، وهو الانقسام. فنحن منقسمون إلى "يمينيين" و"يساريين"، وعلمانيين ومتدينين، وإلى يهود غربيين ويهود شرقيين، ومهاجرين جدد ومهاجرين قدامى، وعرب ويهو،د ومواطنين وغير مواطنين. وفي الطبقات الرمادية، الخفية عن العين، يوجد انقسام آخر، خفي منسي ولكنه جوهري ومحسوس: انقسام بين الإسرائيليين الذين يعيشون سيناريو التهديد الوجودي من جهة ومن جهة أخرى، أولئك الذين يعيشون سيناريو الزبون صادق دائماً، بين الأمنيين (الذين يرون أنه يمكن حل كل المشاكل حلاً أمنياً عسكرياً) والمدنيين (الذين يودون أن يحيوا حياة عادية طبيعية). فالأولون مشغولون بالتهديد الإيراني، والآخِرون يشكون من ميزانية الثقافة والتربية، والقتل في الشوارع وما أشبه". "فمع مرور الوقت تزيد الصعاب، ويزداد التهديد الأمني وتهديد النظام الداخلي، ويتعمق الشقاق بين المعسكرات. يريد المدني التمكين من العيش في هذه البلاد. ويقول الأمني: لنتنفس أولاً، ثم نفحص بعد ذلك هل يمكن أن نعيش أيضاً". والله أعلم.