من هو الشهيد؟
لا يمر يوم تقريباً إلا ونسمع عن "شهيد". وليس من كلمة غامضة ومضللة مثل مصطلح "الشهيد". وليس من كلمة يساء استخدامها بيد كل المأجورين والانقلابيين مثل "الشهيد". حتى غدت ثوباً لكل "الزعر" و"الحرافيش" و"العيارين" ورجال السلطة وجند المخابرات... ممن قتل بقضية وبدون قضية.
وليس في القرآن آية واحدة، مما اتفق عليه المسلمون، تعبر عن القتل بمعنى الشهادة، فالآيات التي تتحدث عن الشهيد والاستشهاد والشهادة في نحو 82 موضعاً، لا تزيد عن معنى الإقرار والاعتراف والشهود الواعي. وحين أسمع الأخبار عن طوابير الشهداء، ليس عندي سوى الضحك؛ فهو أريح كما يقول أرسطو! في ديسمبر 2007 قتلت بينظير بوتو في باكستان؛ فاعتبرها أنصارها شهيدة، واعتبرها تنظيم "القاعدة" كافرة بالولاء والبراء. وكانت الخارجية الأميركية قد وعدتها بالحماية، واتهم البعض حكومة برويز مشرف، لكن الجاني لم يعرف، كما هو الحال في قضية مقتل رفيق الحريري. وقد تمر ثلاثون عاماً، دون أن تأذن أميركا بفتح ملف نورمبرغ الجديد!
وفي يناير 2008، مات جورج حبش عن 82 عاماً وهو يكتب مذكراته في "النضال"، فهتف الرفاق: إنه من أعظم الشهداء والقديسين. والرجل ماركسي لينيني، فجّر الطائرات والناس والحجارة، وهو من اخترع موضة الخطف والانتحار، ونشر الرعب في العالم... فالناس اليوم بسبب حبش وأمثاله، يفتشون في المطارات مثل ديوك الحبش.
وفي فبراير 2008، قُتِل "عماد مغنية" عند الرفاق في دمشق؛ فغنى الرفاق بخصاله الحميدة، ومناقبه الاستثنائية، ووقف رجال الدين صفوفاً في جنازته. والرجل مطلوب للعدالة في 42 دولة. وقد كان رجل استخبارات داهية ممثلاً لإيران، يذكر بأبي مسلم الخراساني... بدأ حياته بالقتل وأنهاها بالقتل.
وفي بغداد قتلت مخابرات صدام "الرفيق أبو نضال" واعتبرته شهيداً، ومشت في جنازته، وهو من برع في القتل، وامتدت يده لأقرب الناس إليه؛ فأصبح خطره داهماً على القاصي والداني فوجب التخلص منه.
وفي السلمية في سوريا، حيث نشأت فرق الحشاشين للاغتيالات، مررت على قبر "الجندي" فقرأت الآية: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون". والرجل اشتهر كجلاد مخابرات، قضى عمره في تعذيب الناس، وكان يحب إهانة كرام القوم؛ لنقص خلقي في تربيته، فمات منحوراً أو منتحراً، كما تفعل الأسود مع ذئاب الغابة.
وفي أيام الحقبة الناصرية، كان مكتوباً علينا ونحن طلاب مدارس، أن نخرج في البرد كل ثلاثة أيام، في مظاهرات يوجهها رجال المكتب الثاني والدرك، تهتف بحياة رجل انقلابي! وأذكر يوماً أننا كنا نردد في مظاهرة خاشعة، "لا إله إلا الله باتريس لومومبا شهيد الله". وكنا نهمس بخوف: من هذا؟ والمسكين كان مناضلاً، آخر ما يفكر فيه شعاراتنا!
ولم أتعرف عليه صدقاً وعدلاً حتى نضجت واطلعت وقرأت، فتبدلت صورته السوداء في ذهني بعد أن كان متهماً مغشوشاً.
فمن هو الشهيد إذن، وأين الثورة الحقيقية؟ يقول "ديورانت" في كتابه "دروس من التاريخ": "وما الثورة الحقيقية الوحيدة إلا تنوير العقل وتحسين الشخصية. وما التحرر الحقيقي الوحيد إلا تحرير الفرد. وما الثوريون الحقيقيون الوحيدون إلا الفلاسفة والقديسون".
والشهيد هو الذي يقر بالحقيقة، ويشهد لها بأفعاله، ويختتمها بموته على أية طريقة، ويجاهد في الله حق جهاده، دون أن يقتل أحداً... كما فعل سقراط ويسوع وبطرس ومالكولم إكس ومارتن لوثر كينغ وغاندي ويوحنا المعمدان. أما السياسيون والمغامرون والانقلابيون والقتلة من أي ملة ونحلة، فهم من ملة ابن آدم القديم الذي هدد بالقتل ونفذ الجريمة. فقال لأقتلنّك، ثم طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله... إنه كان من الخاسرين.