لا يثار جدل حول موضوع له علاقة بالتطرف الإسلامي إلا ويكون سيد قطب وكتابه "معالم في الطريق" جزءاً منه. فكثير من منتقدي الإسلام السياسي المتشدد، والحاملين عليه، يعتبرون قطب أحد أهم مراجع التطرف، إن لم يكن هو المرجع الأهم على الأقل في عصرنا الراهن. فإذا صدر عن "الإخوان المسلمين" سلوك متطرف يستدعي حملة عليهم، استدعى البعض سيد قطب للدلالة على أن تطرف هذا التيار ليس جديداً. وإذا لجأت حركة إسلامية أخرى إلى العنف، يتم تحميل سيد قطب المسؤولية أو جزءاً منها بدعوى أن فكره وراء كل عنف إسلامي. وقد رأينا مثل ذلك في الفترة التي ملأت فيها "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" أنحاء مصر عنفاً منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي وحتى بعيد منتصف تسعينياته. وإذا تراجع هذان التنظيمان عن العنف، كما يحدث الآن، قيل إنهما ابتعدا عن فكر سيد قطب على نحو ما ردده أكثر من مشارك في ندوة عُقدت أخيراً حول "وثيقة ترشيد العمل الجهادي" التي أصدرها الدكتور سيد إمام أبرز منظري تنظيم "الجهاد". ولا يقف تأثير سيد قطب، لدى المولعين بهجائه في كل مناسبة، عند حدود مصر؛ فإذا لم يكن أسامة بن لادن قد تأثر به في مرحلة تكوينه، فيكفي هؤلاء تأثيره في أيمن الظواهري ليكون فكره المتطرف هو أهم دعائم تنظيم "القاعدة". وهذه القراءة لسيد قطب لا تقتصر على أشد ناقديه، إذ يشاركهم فيها بعض من أكثر مدّاحيه ممن يعتبرونه رمزاً لا يضاهى للجهاد في الربع الثاني من القرن الماضي. وعلى ما بين أنصار قطب وخصومه الأشداء من تناقض في كل شيء، فهم يصلون في المحصلة إلى أنه أهم مراجع التشدد الذي يعتبره أنصاره قمة الجهاد ويراه أعداؤه ذروة الإرهاب. غير أن هذه القراءة لسيد قطب، باتجاهيها المتناقضين، ليست الوحيدة؛ فقد تعرض لقراءات متعددة باختلاف اتجاهات قارئيه, لكن أهمها، إضافة إلى ما سبق، قراءتان إحداهما تركز على ما تعتبره خطأ وقع فيه من وصموه بالتطرف واتهموه بتكفير السلطة والمجتمع والناس من خلال إساءة فهم مفهومه عن الجاهلية ورؤيته للحاكمية. ورغم أن هذه القراءة التي تعتبره معتدلاً لا تخلو بدورها من ميل شديد مع الهوى، فهي تقدم الجانب الآخر لفكر قطب، أو قل الوجه الثاني لأكثر رموز الإسلام السياسي في القرن العشرين إثارة للجدل. أما القراءة الأخرى، فهي على العكس تماماً، شككت في التزامه بالأصول الإسلامية وحذرت من ضلاله، وليس من تطرفه, فقد قامت هذه القراءة على تفسير معين لبعض أعماله في اتجاه أنه رفض الاجتهاد الفقهي قبل إقامة مجتمع إسلامي. ومع ذلك تظل القراءة التي تتهم قطب بأنه مصدر التطرف الإسلامي، والمسؤول الأول عن العنف الذي ترتب على هذا التطرف، هي الأكثر شيوعاً، ربما بحكم انتشار العنف في العقدين الأخيرين مما يؤدي إلى تكرار استدعائها من جانب البعض. غير أن هذه قراءة مبتسرة، مثلها مثل الأخرى التي تحاول إظهار قطب كما لو أنه كان شديد الاعتدال. فأية قراءة موضوعية لأعماله الأخيرة، وخصوصاً "معالم في الطريق"، لا يمكن أن تجد فيه تعبيراً عن الإسلام الوسطي المعتدل. كان قطب متطرفاً، لكن ليس إلى المدى الذي يجعله المرجع الأهم لكل تشدد جاء بعده ولأي عنف حدث في العقود الأربعة الأخيرة. فالصورة التي يرسمها له بعض أشد أعدائه هي صورة "ساحر" وليس فقط متطرفاً. فمن ذا الذي يستطيع التأثير في طلاب "الإخوان المسلمين" وقطاعات أخرى في تنظيمهم، وفي أعضاء تنظيم "القاعدة" على ما بينهم من اختلاف شائع، ناهيك عن حركات وجماعات لا حصر لها؟ وإذا كان بعض من تبنوا العنف منهجاً للتغيير بعده قد أشادوا به أو عادوا إلى جملة هنا أو عبارة هناك مما كتبه، مثل صالح سرية وعبد الله عزام، فكثير غيرهم لم يمر عليه حتى مرور الكرام. وفي حين أحال إليه صالح سرية، الذي قاد عملية اقتحام الكلية الفنية العسكرية في القاهرة عام 1974 في "رسالة الإيمان"، فقد خلت "الفريضة الغائبة" لعبد السلام فرج -أبرز مدبري اغتيال السادات- مثلاً من أية إشارة له. وشتان بين تأثير الوثيقتين كماً ونوعاً. والحق أن من يقرأ "معالم في الطريق" قراءة محايدة بقدر الإمكان يجد فيه تطرفاً في منهج التغيير الإسلامي، ولكن ليس في وسائل هذا التغيير وأدواته. ولذلك فليس من الإنصاف اتهامه بأنه سعى إلى انقلاب إسلامي قد يدمر الأرض وما عليها. فقد حدد أربع مراحل لبناء مجتمع الدعوة، وهي التكوين العقدي والاعتزال الشعوري والاستعلاء على المجتمع والتمكين. وتحدث عن مسافة شاسعة بين بداية البعث الإسلامي الذي دعا إليه وتَحقُّقِ أهداف هذا البعث، أو بين ما أسماه محاولة بعث الإسلام وبين تسلمه قيادة العالم الذي رآه خاوياً من الروح مجرداً من القيم. ولأن "كتاب معالم في الطريق" الذي يعتبر وثيقة الاتهام الأولى ضد قطب، يقدم دليل عمل قبل كل شيء، فلا تصح قراءته بطريقة انتقائية أو ترصدية، ولا الوقوف عند كلمة هنا أو عبارة هناك مما ورد فيه. فقد وضع قطب "معالم في الطريق" ليكون دليلاً لما أسماه "الطليعة المرجوة المرتقبة" التي أراد أن تبدأ عملية البعث الإسلامي. وإذ أسهب في توضيح أن عملية البعث هذه ستكون طويلة ممتدة، فلا مبرر إذن لاعتبارها عملية انقلابية؛ لأن هذا النوع من العمليات لا يمكن إلا أن يكون فورياً. ويعني ذلك، منهجياً، أن عملية البعث التي يطول أمدها تستهدف أسلمة المجتمع من أسفل وليس الانقضاض على السلطة من أعلى. وفي ظل هذا المنهج، يتعين الاتصال مع المجتمع المراد تغييره بشكل أو بآخر. ولكن كيف ذلك إذا كان قد دعا إلى ما أسماه المفاصلة الشعورية أو الاعتزال الشعوري الذي قرأه البعض باعتباره دالاً على عزلة كاملة عن المجتمع؟ إن القراءة المدققة لمفهوم المفاصلة أو الاعتزال عند قطب، تفيد معنى العزلة الجزئية بالقدر الذي يستوجبه بناء ما أسماه "الطليعة المؤمنة" وحماية عناصرها، حديثة التكوين، من التأثر بالبيئة المحيطة في وجود سلطة مهيمنة تمتلك إعلاماً طاغياً مقتحماً عظيم النفوذ على نحو ما كان الوضع في مصر في ستينيات القرن الماضي. فهو لم يقصد عزلة كلية؛ لأن دور الطليعة هو التأثير في البيئة المحيطة، ولا تأثير بطبيعة الحال بدون اتصال. وليس هذا مجرد استنتاج، لأن منه ما ورد صريحاً في "معالم في الطريق" عندما حدد قطب لطليعة البعث الإسلامي دورها بوضوح وهو أن تزاول نوعاً من العزلة من جانب، ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بما أسماه "الجاهلية المحيطة". كما أوضح ذلك في حديثه عن أنه وضع المعالم "لتعرف منها الطليعة طبيعة دورها وحقيقة وظيفتها وموقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعاً؛ من أين تلتقي مع الناس، وأين تفترق، وكيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام وفيم تخاطبها". وهذا منهج دعوي في جوهره ومن حيث أدواته، وهو منهج متطرف، لكنه ليس انقلابياً، فقد جمع قطب بين اتجاه شديد التطرف في موقفه تجاه البيئة السياسية والاجتماعية، وفي نظرته إلى العالم أجمع، وبين منهج أقل تطرفاً في التعامل مع الواقع الذي عاش فيه. وربما يجوز تفسير ذلك بالقهر الذي تعرض له، فقد أثر هذا القهر في مواقفه وأحكامه، أكثر منه في منهجه الذي كان التغيير فيه باتجاه التطرف أقل نسبياً. ولذلك كله يمكن أن نجد في سيد قطب شيئاً من اعتدال مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين" حسن البنا ونزوعه السلمي، وتطرف الرجل الثاني في تنظيم "القاعدة" أيمن الظواهري وعنفه، في آن معاً. وهذه الازدواجية هي ما لا يدركه، أو ما لا يحب أن يخلص إليه، من يعتبرونه مصدراً لكل عنف، ومن يصورونه رمزاً لكل شر، ومن يعدونه منبعاً لكل إرهاب.