الليبرالية الأميركية... نزعة شمولية وأصول فاشية!
خلال حملته الانتخابية لعام 1976 أدلى الرئيس "رونالد ريجان" بتصريح لافت قال فيه "إن الفاشية هي حقاً أساس الخطة الجديدة للرئيس روزفلت"، وعندما نجح "ريجان" في انتزاع ترشيح "الحزب الجمهوري"، استعاد "الديمقراطيون" ذلك التصريح كدليل على تشدد مرشح الحزب الجمهوري. لكن مع صدور الكتاب الجديد الذي نعرضه اليوم للكاتب والصحفي الأميركي "جونا جولدبورج" بعنوان "الفاشية الليبرالية: التاريخ السري لليسار الأميركي"، يعود الجدال مجدداً ليحتدم بين أنصار الليبرالية في صيغتها الداعية إلى تدخل أكبر للدولة في المجتمع والاقتصاد، وبين التيار المحافظ الذي يطالب بحكومة صغيرة وبدور محدود للدولة في الحياة العامة. ومن الواضح أن جولدبورج ينتمي إلى هذا التيار الأخير ويسعى إلى انتقاد خصومه في المشهد الأميركي. وعلى امتداد صفحات الكتاب يضع المؤلف نصب عينيه هدفاً رئيسياً يتمثل في استحضار الفاشية في النقاش السياسي الأميركي، لكن بعد تطهيرها من حمولتها السلبية، مبيناً كيف أن الليبرالية الأميركية تدين بأصولها الأولى إلى الأفكار والمبادئ ذاتها التي أدت إلى ظهور الفاشية في أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين.
ورغم أن مقولة "جولدبورج" قد تتسبب في إغضاب الليبراليين واليساريين في أميركا، فإن المؤلف كان واضحاً منذ البداية حين قال "إن الفاشية العالمية تمتح من المعين ذاته الذي ينهل منه التيار التقدمي الأميركي". ولتوضيح فكرته والدفاع عنها يقسم المؤلف تحليله إلى قسمين يسعى في الأول منهما إلى إزالة الشوائب التي لحقت بمفهوم الفاشية على مر السنوات لتأخذ طابعاً سلبياً في عقول الناس. فلفترة طويلة ظل مفهوم الفاشية محط جدل واسع بين المفكرين السياسيين لارتباطه بالنازية وظهورها في أوروبا. والواقع أن الفاشية، حسب المؤلف، يجب التعامل معها كمفهوم فكري تطور عبر السنوات ليتخذ أشكالاً سياسية متعددة، حيث يمكن إرجاع أسسها النظرية إلى تاريخية "هيجل"، ومذهب التطور والارتقاء لدى "داروين"، فضلاً عن إرادة القوة عند "نتشيه"، وهي الأفكار التي تطورت فيما بعد وانقلبت على النظرية الكلاسيكية لليبرالية كما وضعها مفكرو عصر الأنوار، ثم تلقفها الآباء المؤسسون في أميركا.
وكما يوضح المؤلف ذلك، ليست الفاشية سوى نوع من الاشتراكية الثورية ذات الميول الشمولية. وفي سياق تطهير كلمة الفاشية من عيوبها القاتلة بهدف إبعاد تلك العيوب عن الليبرالية يفرق الكاتب بين الفاشية وبين النازية أو العنصرية. فالنازية مثلاً كانت نتاج الثقافة الألمانية وانبثقت ضمن سياق ألماني خاص لا يمكن نقله إلى بلدان أخرى، وهكذا يرى المؤلف أن المحرقة اليهودية ما كان لها أن تُرتكب في إيطاليا لأن هذه الأخيرة مختلفة تماماً عن جارتها ألمانيا. هذا المنحنى في التفريق بين الفاشية والنازية ضروري بالنسبة للكاتب حتى لا يتهم من قبل مواطنيه الأميركيين من الليبراليين بأنه ينعتهم بالنازية. أما القسم الثاني من التحليل فيكرسه المؤلف لوصف الفاشية الأميركية في صيرورتها الخاصة المختلفة عن الفاشية الأوروبية التي أنجبت "هتلر" و"موسوليني". وفي هذا السياق يرصد المؤلف ثلاث حلقات من الفاشية طبعت التاريخ الأميركي المعاصر: المرحلة التقدمية (التي تزامنت مع الحرب العالمية الأولى)؛ ومرحلة الخطة الجديدة التي أطلقها الرئيس "تيودور روزفلت"؛ ومرحلة الستينيات.
وبرغم أن البعض اعتبر فترة الحرب العالمية الأولى بمثابة نهاية للتقدمية في أميركا، فإن المؤلف يصر على أنها بداية انطلاقتها عبر نزوعها العسكري الواضح وإخمادها للأصوات المعارضة. وفيما يتعلق بالمشروع الجديد الذي أعلنه "روزفلت" عام 1934، يشير الكاتب إلى أن المشرفين عليه أقروا بأنفسهم أنهم استلهموا الخطة من إيطاليا وألمانيا. بل إن الخطة الجديدة حظيت وقتها بإشادة، وثقتها صحيفة "نيويورك تايمز"، من المستشار الألماني "أدولف هتلر". وجاء عقد الستينيات ليدشن المرحلة الثالثة من الفاشية الأميركية مع صعود اليسار الجديد في الساحة السياسية، حين سعى إلى فرض نظام اجتماعي جديد على الأميركيين. والأكثر من ذلك يعتقد المؤلف أن أفكار اليسار لم تختفِ تماماً من الساحة، حيث مازال الحماس الليبرالي لتنظيم المجتمع نيابة عن الأفراد، سائداً إلى غاية الساعة. هذا التدخل في حياة الأفراد لتحديد أنماط حياتهم، هو من وجهة نظر المؤلف تغول للجهاز الحكومي وتدخل من الدولة يشبه الفاشية.
وبينما يوجه جولدبورج نقده للفاشية، فهو يبدي حرصاً كبيراً على عدم الخلط بين الليبرالية والفاشية الأوروبية التي أدت إلى ظهور النازية والحركات الشمولية الأخرى في العالم. فالفاشية التي يتحدث عنها الكاتب هي من النوع غير الضار كما يقول، لكنها تتبنى سياسات اقتصادية واجتماعية تدعي القدرة على قيادة المجتمع والارتقاء به في مدارك التقدم؛ وهي فكرة تعارض أيديولوجية المحافظين التي تنظر دائماً بعين الريبة إلى الحكومات المتضخمة وبرامجها الاجتماعية، لأن القيمة الأهم بالنسبة للمحافظين تكمن في حرية الفرد وقدرته على الحركة والمبادرة دون قيود. ومع أن الكاتب حاول تبرئة الليبراليين من سوء النية، عبر الاعتراف باختلاف قراءتهم الخاصة لما يعتبرونه مصلحة الوطن، فإنه يعاود التركيز على الجانب الفاشي لدى الليبراليين من خلال الإشارة إلى خطاب "هيلاري كلينتون" في حملتها الانتخابية والذي تطرقت فيه "إلى سياسات المعنى"، معتبراً أنه أوضح نموذج لنظرة شمولية يقدمها سياسي أميركي.
زهير الكساب
ــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: الفاشية الليبرالية: التاريخ السري لليسار الأميركي
المؤلف: جونا جولدبورج
الناشر: دابلداي
تاريخ النشر: 2008