مأزق أميركا... كيف تواجه التباطؤ الاقتصادي؟
لم يعد خافياً على أحد أن الاقتصاد الأميركي يتجه نحو تباطؤ كبير، ومهما جادلنا حول طبيعة الركود وما إذا كان جديراً بهذا الاسم، أم لا، فإن الواضح والمؤكد أن الاقتصاد الأميركي عاجز في هذه المرحلة عن الانطلاق بكل إمكاناته الهائلة وكبح الارتفاع المرتقب في معدل البطالة. ومع أننا في حاجة ماسة إلى حوافز عاجلة لدفع الاقتصاد، إلا أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستفاقم مشكلة عجز الموازنة، لذا فإنه من المهم إعادة بعض القوة للدولار الأميركي حتى تكتسي حزمة المساعدات التي اقترحها الرئيس بوش فعالية حقيقية. وتتمثل الحزمة المثالية لمعالجة حالة التباطؤ إقرار إجراءات سريعة مصحوبة بخطوات أخرى قد تؤدي إلى الرفع من الإنفاق، لكن فقط إذا استمر الاقتصاد في هبوطه الحاد. وفي هذا الإطار أرى أنه يتعين أولاً تعزيز نظام التأمين على البطالة والضمانات المرتبطة به، لأن المال الذي يحصل عليه العاطل ينفق فوراً، ما يشجع على الاستهلاك ويعيد التوازن إلى الأسواق.
ويتعين أيضاً على الحكومة الفيدرالية مد يد المساعدة للولايات والمقاطعات المختلفة التي بدأت تستشعر قسوة الانحدار الاقتصادي، لاسيما بعدما انخفضت قيمة الممتلكات وتراجعت فائدتها في الأسواق. وعادة ما تلجأ الولايات والسلطات المحلية إلى التقليص من النفقات لمواجهة المشاكل المالية والنقص في الميزانية، لكن ذلك سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار الاقتصادي وسينعكس سلباً على الخدمات المقدمة للمواطنين. لذا يتعين على المساعدات الفيدرالية أن تركز في هذه المرحلة على دعم مشاريع إقامة البنية التحتية الضرورية. كما أن ضخ المزيد من المعونات الفيدرالية في موازنات التعليم سيؤدي في المدى القصير إلى تقوية الاقتصاد، وتشجيع النمو على المدى البعيد، فضلاً عن المساعدات الرامية إلى دعم ترشيد الطاقة وخفض الانبعاثات السامة.
ولا شك أن كل تلك الإجراءات ستتطلب بعض الوقت حتى تنعكس على أرض الواقع وتظهر فوائدها، لكن يبدو أن التباطؤ الحالي سيستمر معنا لوقت أطول مقارنة بالأزمات المشابهة التي شهدها الاقتصاد الأميركي في المرات السابقة. هذه الحقيقة تستدعي منا مواصلة دعم الاقتصاد عبر ضخ المزيد من السيولة في النظام المالي، لاسيما وأنه مازال وقت طويل أمام أسعار المنازل قبل أن تعود إلى مستواها العادي، كما أنه في حال اتجاه الأميركيين إلى الادخار نتيجة الأزمة الحالية بأكثر من معدلهم الاعتيادي فإن ذلك سيضر بمعدل الاستهلاك، ومن ثم سيبقى الاقتصاد متأزماً لفترة أطول. ومع أن بوش كان على الدوام يدافع عن سياسة خفض الضرائب، وبخاصة تلك التي يستفيد منها الأغنياء، باعتبارها الحل الأمثل لمشاكل الاقتصاد والطريقة الأفضل لتحفيز الاستثمار وبالتالي إبقاء البطالة في أدنى مستوياتها، إلا أن هذه الفرضية أثبتت خطأها وقصر نظرها. فقد بات معروفاً اليوم أن خفض الضرائب لم يؤدِّ سوى إلى تشجيع نوع من الاستهلاك المفرط الذي ميز الاقتصاد الأميركي في الفترة الأخيرة دون أن تستفيد من ذلك الطبقة الوسطى وذوو الدخل المتدني الذين عانوا الأمرَّين على امتداد السبع سنوات الأخيرة. ولا أدل على ذلك من انخفاض دخل العائلات المتوسطة مقارنة مع دخلها في عام 2000، لذا فإن تقليص الضرائب الموجهة أساساً للعائلات المتوسطة وذات الدخل المتدني سيكون منطقياً ومفيداً، لاسيما وأن آثارها لن تتأخر طويلاً في الانعكاس على مستوى الاستهلاك.
ولابد أيضاً من التحرك السريع لمعالجة مشكلة احتجاز المنازل التي عجز الدائنون عن تسديد أقساطها للبنوك عن طريق تشريع قانون يسمح لضحايا القروض بالبقاء في منازلهم، لأن من شأن ذلك أن يحفز الاقتصاد ويوقف عدم الاستقرار. وبالطبع سيكون ذلك من خلال تدخل الحكومة الفيدرالية التي ستعيد أموال البنوك، لكن على ألا تبالغ السلطات في الإنفاق لأنه قد ينتهي بها المطاف وهي تساعد المستثمرين؛ والحال أنهم أقل من يحتاج إلى مساعدة يقدمها لهم دافعو الضرائب من الطبقات المتوسطة والدنيا. ولعلنا مازلنا نتذكر الإجراءات التي اتخذها بوش في عام 2001 عندما بدأت تلوح في الأفق بوادر تباطؤ اقتصادي، حيث قام بخفض الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة في أميركا، على رغم أنهم الشريحة التي عرفت ازدهاراً غير مسبوق طيلة ربع القرن الأخير.
وبعيداً عن الدواعي الاقتصادية البحتة جاء الخفض نتيجة اعتبارات سياسية ما جعل أثره على الاقتصاد الأميركي محدوداً للغاية. وللحفاظ على عجلة الاقتصاد مستمرة اضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض معدل الفائدة إلى مستوى غير مسبوق لتشجيع الاستهلاك وخلق الرواج، لكن دون الانتباه إلى عمليات الإقراض المتهورة وغير المسؤولة التي انخرطت فيها المؤسسات المالية. وقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى بروز اقتصاد قائم على اقتراض الأموال وشراء الوقت، وها نحن اليوم نسدد الحساب ونواجه لحظات عسيرة، وهو ما يحتم علينا إقرار برنامج للحوافز قادر فعلاً على تحفيز الاقتصاد وإخراجه من أزمته الحالية. لكن ليتحقق كل ذلك علينا الإجابة أولاً على السؤال التالي: هل سيُنحي الرئيس والكونجرس خلافاتهما السياسية جانباً وينكبّان بدلاً من ذلك على إنجاز المهمة، أم ستواصل الاعتبارات السياسية إعاقتها للحلول الواقعية لاقتصاد متعثر؟
ــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"