المأزق العربي: من "النهضة" إلى "التنمية"!
شهد النصف الثاني من القرن العشرين تحولاً نوعياً واسعاً في الدراسات المتعلقة بنظرية التنمية والتحديث في الوطن العربي، ليس لجهة دخول نظريات علمية اجتماعية واقتصادية التداول الثقافي فحسب، بل أيضاً لحصول ما يشبه القطيعة المعرفية مع المقاربة النهضوية لإشكالية التقدم والتخلف العربيين، التي عرفت بواكيرها الأولى منذ أطلق رواد عصر النهضة العربية الأولى سؤالهم الشهير: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ فقد كانت المسألة حضارية فلسفية، معرفية، طيلة القرن التاسع عشر وخلال النصف الأول من القرن العشرين. ولذلك أنتجت واستتبعت مقاربة ثنائيات إشكالية فلسفية أيضاً كلها ذات صلة بسؤال الهوية العربية وأزمتها، ومن أبرز تلك الثنائيات: الأصالة والمعاصرة، والتراث والاستحداث، والأنا العربي والآخر الغربي، والتقليد والتجديد. وقد تمثلت القطيعة المعرفية التي عبر عنها شيوع نظريات التنمية والتحديث بدل الدرس النهضوي العربي، في مقاربة مظاهر التخلف العربي، لا أسبابه، ومن ثم التنظير للخروج منه كجملة حقائق اقتصادية واجتماعية موضوعية قائمة على أرض الواقع، لا كإشكاليات فلسفية تصطرع في الذهن، أو تنكص مع الذاكرة وتغازلها، وتختلف تجاهها الآراء والاجتهادات بحسب ما تكون عليه الذات. إنه خروج كبير إذن من لوم الذات أو الدفاع عنها، إلى مقاربة الموضوع وتفكيكه ونزع ألغازه بلغة الكم، وبمناهج العلم.
وفي سياق الجهد التنظيري العربي في هذا المنحى يأتي كتاب "إشكالية التنمية في الوطن العربي" لسهير حامد، الذي نقترح هنا إشارات سريعة إلى بعض ما جاء فيه. والكتاب يتألف من خمسة فصول، خصص أولها "التنمية والتخلف" للحفر في الدلالة المفهومية والمسار التطوري الذي عرفه مفهوم التنمية، مع الإشارة إلى أنماط الإنتاج السابقة، أو السائدة، في الوطن العربي، انطلاقاً من أن: "مفهوم التنمية من أكثر المفاهيم عمومية وشمولية، ويرتبط بفكرة التقدم، وتضمن التغير، والتطور من حالة إلى أخرى، ويشغل النمو الاقتصادي عمودها الفقري، فكل من التنمية والنمو يشترط أحدهما الآخر، فالتنمية عملية تغير نوعي لما هو قائم سواء أكان اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً". ومن هذا التحديد المفهومي ينطلق الكتاب في استعراض مختلف الاتجاهات النظرية في التنمية، كنظرية التحديث ونظرية فرانك ونظرية التنمية البديلة، ونظرية المركز والهامش الشهيرة لسمير أمين انتهاءً إلى أن "مفهوم التنمية يختلف باختلاف الأيديولوجيات والزوايا التي ينظر إليها لمعالجة القضايا. وبناء عليه نستطيع القول بأنه ظهرت في النظام الاقتصادي العربي، خلال مسيرته التاريخية، أشكال مختلفة من الإنتاج، فبرز الإنتاج الخراجي، ونمط الإنتاج الرعوي والمشاعي، وما زال هذا النظام تتعايش فيه مختلف أنماط الإنتاج من شبه رأسمالي وما قبل الرأسمالي، وشبه نمط الإنتاج الوراثي، وشبه الحكومي، التي ما زالت تسود بعض المناطق العربية".
أما الفصل الثاني فمخصص لـ"التركيب الاجتماعي والاقتصادي للوطن العربي"، من خلال استعراض أنماط الإنتاج السائدة والمراحل التاريخية التي مرت بها، ووقوعها تحت تأثير التدخل الغربي خلال فترة الاستعمار للمنطقة، منتهياً -كما يمكن أن نتوقع- إلى أن التدخل الاستعماري أدى إلى تشوهات هيكلية في بنية أنماط الإنتاج والبناء الاجتماعي في الوطن العربي. هذا في حين أن الفصل الثالث "أزمة التنمية في الوطن العربي"اقترب من أكثر إشكاليات التنمية راهنية مبرزاً التجاذب القائم الآن بين مشروعات مختلفة للنهوض بالمنطقة العربية أو لإعادة تشكيلها ابتداءً من فرص التكامل الاقتصادي العربي المتاحة في ضوء أطر العمل العربي المشترك والإمكانات المادية الحاملة لأي مسعى تكاملي كالنفط وغيره من الموارد الطبيعية العربية، وانتهاءً بالمشروع الأميركي المسمى بـ"الشرق الأوسط الكبير". في حين يقارب الفصل الثالث "العولمة وتداعياتها على الوطن العربي" والفجوة الاقتصادية الهائلة القائمة بين الدول العربية الغنية والفقيرة، والأثر السلبي لما يسميه "عولمة السياسة" وتجاذبات قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في الدول العربية، أي بالجملة "خيبات العولمة" على الوطن العربي. هذا في حين خصص الفصل الخامس لـ"النتائج العامة والحلول".
والسمة العامة في هذا الكتاب، على ما فيه من جهد وتتبع منهجي، هي حضور المواقف والآراء المسبقة بقوة وعدم الاحتشاد اللغوي أو انعقاد الجهاز المفهومي بصفة عامة، كما سادت أحكام القيمة في صفحاته على حساب حيادية لغة التحليل العلمي أحياناً كثيرة، وبذلك تحول الموضوع المدروس إلى "قضية" بدل أن يكون مجرد "ظاهرة" أو وحدة اهتمام. كما لا ينقص الكتاب أيضاً استدعاء روح ما يسمى بـ"نظرية المؤامرة"، كحديثه عن "مؤامرات" الجهات الدولية المعنية بتقديم المشورة التنموية للدول العربية: "ويتضح لنا أن كل البرامج الإصلاحية التي تقدمها تلك المؤسسات تهدف إلى زيادة مديونية الدول الفقيرة لإبقائها في دوامة القروض والديون والمساعدات الخارجية، وتحت رحمة تلك المؤسسات القائمة على الربح. فهي ليست معنية بالإصلاحات في البلدان العربية، وما تهدف إليه هو إبقاء هذه البلدان في دائرة المديونية وتحت مزيد من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، وفي المقابل تأخذ أضعاف أضعاف ما تقدمه للدول الفقيرة، مستغلة فقر تلك الدول التي لا تمتلك من الموارد الكافية، ومثقلة بتبعيتها مما ينجم عنه ضعف في اقتصادها، ويضطرها للجوء إلى المؤسسات في غياب التعاون الاقتصادي العربي".
حسن ولد المختار
الكتاب: إشكالية التنمية في الوطن العربي
الكاتب: سهير حامد
الناشر: دار الشروق
تاريخ النشر: 2007