أقام المسلمون الشيعة احتفالاتهم بذكرى عاشوراء يوم الثلاثاء الماضي 2 مارس لأول مرة منذ سقوط بغداد. غير أنها كانت احتفالات دامية على الشيعة ونذير شؤم على السياسة الخارجية الأميركية. وقد لقي 140 شيعياً من العراقيين والإيرانيين مصرعهم من جرّاء عمليات التفجير الانتحارية التي وقعت في كل من بغداد وكربلاء هذا الأسبوع، إضافة إلى مصرع 43 شيعياً باكستانياً في هجوم مماثل وقع في مدينة كويتا الحدودية.
وقد دفعت الهجمات المذكورة إلى دائرة الضوء مشكلةً خطيرةً تواجه أميركا: فقد أدت النهضة الشيعية في أعقاب سقوط صدّام حسين إلى إعادة تنشيط الحركات السنية المسلّحة التي تشكل بدورها تهديداً للسلام والاستقرار في منطقة أوسع من آسيا تمتد من باكستان إلى لبنان.
وقد تكون السلطات الأميركية على صواب حين قالت إن تفجيرات عاشوراء كانت من تدبير وتنفيذ الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي وعملاء منظمة "القاعدة" الذين يرون في العنف الطائفي والمذهبي وسيلة إلى تقويض الخطط الأميركية المتعلقة بالعراق. غير أنه سيكون من باب الخطأ في أي حال أن يُنظر إلى العنف المضاد للشيعة باعتباره من تدبير وتنفيذ مجموعة صغيرة من الارهابيين ومقتصراً على السياسيات العراقية دون غيرها.
فالعداء للشيعة جزء لا يتجزأ من أيديولوجيا الحركات السنّية المتطرفة التي برزت واشتهرت في أرجاء المنطقة على مدى سنوات العقد المنصرم. وقد انتشرت هذه المعتقدات المناوئة للشيعة في أفغانستان وجنوب آسيا، حيث استخدمتها حكومة طالبان لتبرير المذابح التي حصدت أرواح الشيعة المدنيين. وعلى رغم سقوط نظام طالبان، استمر تفشي أعمال قتل الشيعة على نطاق واسع في عمليات تفجير استهدفت المساجد والمراكز الشيعية في كل من أفغانستان وباكستان.
وقد تلقى الكثير من المسلحين السنّة، المسؤولين عن تلك الهجمات، تدريبات في المعسكرات الأفغانية نفسها التي تدرّب فيها جنود منظمة "القاعدة" وحركة طالبان. وقد قاتل هؤلاء جنباً إلى جنب عندما أحكمت حركة طالبان قبضتها على أفغانستان، وتجلى ذلك بأوضح صورة في استيلاء الحركة على مدينة مزار الشريف ومدينة باميان في عام 1998 حيث تخلل ذلك قتل ما لا يقل عن 2000 شيعي مدني. ويُعتبر رمزي يوسف، وهو الذي أدين بالتخطيط لعملية تفجير مركز التجارة العالمي في عام 1993، من أبرز المشتبه بهم في تنفيذ عملية تفجير الأضرحة الشيعية في مدينة مشهد الإيرانية عام 1994.
وغايتي من ذكر ذلك أن القوى التي تقوم اليوم بقتل الشيعة في العراق لها أصول وجذور تمتد في أرجاء المنطقة كلها. فهي شبكة تضم في صفوفها أعضاء من العرب وغير العرب ومواطنين من بلدان جنوب آسيا والشرق الأوسط. وإذا نجح هؤلاء في إطلاق شرارة حرب أهلية، فإنها ستنتشر إلى خارج حدود العراق انتشاراً سريعاً واسعاً كالنار في الهشيم.
وفي حين أن الشيعة لا يشكلون أكثر من 10 إلى 15% من مجموع المسلمين في العالم، والبالغ عددهم 1.3 مليار مسلم، يعيش في الشرق الأوسط 120 مليون شيعي. ويشكل الشيعة أغلبية في كل من أذربيجان والبحرين وإيران والعراق، إضافة إلى أنهم يشكلون فئة كبرى في لبنان، وأقليات كبيرة نسبياً في أفغانستان وفي مختلف البلدان المطلة على الخليج العربي وبحر العرب كالسعودية وباكستان.
وقد أدى غزو العراق بقيادة أميركا إلى توليد حركة إحياء ثقافية شيعية في البلاد تقوم الآن بتغيير التوازن بين الشيعة والسنّة. وقد أدت الأحداث السياسية إلى زيادة حدة غضب السنّة خارج العراق. ومن أبرز تلك الأحداث تشكيل مجلس الحكم العراق الذي يهيمن عليه الأعضاء الشيعة، وحق الفيتو الذي يتمتع به عملياً ويمارسه الزعيم الشيعي الديني آية الله العظمى علي السيستاني.
ومن غير الوارد عملياً في أذهان الكثير من السنّة أن ينتقل العراق من الهيمنة السنّية إلى الهيمنة الشيعية، وهو البلد الذي كان مركز الامبراطورية العباسية. وترى الأوساط السنّية الثائرة أن انتقال العراق إلى تحت مظلة الهيمنة الشيعية يقدّم دليلاً دامغاً على وجود مؤامرة أميركية تستهدف السنّة والدين الاسلامي ككل. ولذلك نجد أن الحركات السنّية لا يتأصل فيها فقط العداء للشيعة، بل يتأصل فيها أيضاً العداء لأميركا.
إن ما تواجهه الولايات المتحدة في العراق الآن ليس فقط عملية من عمليات منظمة "القاعدة" التي تستهدف السيطرة الأميركية، بل إنها تواجه في حقيقة الأمر طليعة حركة أكبر وأوسع نطاقاً من ذلك. ويستند ذلك الزعم إلى مقدمة منطقية تفيد بأن العنف ضد الشيعة لن يؤدي فقط إلى إخراج العراق عن مسار الانتقال إلى الديمقراطية، بل سيؤدي أيضاً إلى إثارة العنف بين الشيعة والسّنة في كل أنحاء العالم الاسلامي.
ولكي تحقق أميركا النجاح في منافستها للحركة السّنية في العراق، لابد لها من احتواء هذه الحركة في كل أرجاء الشرق الأوسط وجنوب آسيا. ويعني ذلك من بين ما يعنيه، ممارسة الضغوط على بلدان مثل المملكة العربية السعودية وباكستان لكي تقوم بقطع واجتثاث الخطاب المناوئ للشيعة