يعود الوعي إلى النظام العربي الرسمي تدريجياً ولكن بمعدلات سريعة في موقفه تجاه العراق وقضاياه عموماً وبشأن نظام صدام حسين خصوصاً. كان آخر مظاهر الوعي العائد هو إدراج موضوع انتهاكات النظام العراقي السابق على جدول أعمال الدورة الثامنة عشرة للجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان. ناقشت اللجنة هذه الانتهاكات التي تجاهلتها لسنوات طويلة على رغم الشكاوى الكثيرة التي وردت إليها من عراقيين كان معظمهم في المنفى ولكن كان بعضهم في داخل العراق. صحيح أنه ليس معتاداً أن تناقش إحدى اللجان التابعة لجامعة الدول العربية أوضاعاً داخلية في دولة من الدول الأعضاء إلا بناء على رغبتها. ولكن ما حدث في العراق لم يكن معتاداً بدوره، بل كان استثناءً على كل صعيد. كما أن حجم الشكاوى في شأن انتهاكات حقوق العراقيين الأساسية كان هائلاً، فضلاً عن أن قسماً كبيراً منه كان عن انتهاك الحق الأول بلا منازع وهو الحق في الحياة. وقد جاء الضمير متأخراً في صحبة الوعي العائد إلى مؤسسات النظام العربي، الأمر الذي دفع اللجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان إلى اتخاذ موقف بالغ القوة في إدانة انتهاكات النظام العراقي السابق والمطالبة بمحاكمة قادته الذين ارتكبوها وعدم توفير ملاذ آمن لأي منهم. كما دعت إلى تقديم الدعم المادي للجهات العراقية المعنية بالكشف عن المقابر الجماعية والتعرف على رفات الضحايا فيها.
قرار متأخر جداً، ولكنه ضروري. فأن تفعل الشيء متأخراً هو خير من ألا تفعله على الإطلاق. غير أن ما يلفت الانتباه ويستدعي التأمل في الدورة الأخيرة للجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان هو أن جدول أعمالها ركز على انتهاكات نظام صدام حسين وحكومة أرييل شارون وجرائمها في حق العرب عراقيين وفلسطينيين. ولا ينبغي أن نعتبر هذا مجرد مصادفة، أو أن ننظر إلى الموضوعين كما لو أنهما منفصلان تمام الانفصال لا شيء يجمعهما أو أن الرابط بينهما لا يتجاوز انتهاكات لحقوق الإنسان يمكن أن يمارسها طرفان لا صلة لأحدهما بالآخر.
فما جمع نظام صدام حسين وإسرائيل أكبر وأكثر من مجرد انتهاك لحقوق الإنسان في داخل العراق وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة. لقد تشاركا ضمنياً في إلحاق أكبر أذى بالعرب جميعهم في كل بلادهم وعلى امتداد أرضهم من المحيط إلى الخليج. ولكن الفرق هو أن الأذى الإسرائيلي صريح وواضح معلن في إطار صراع تاريخي ممتد، بينما الأذى الذي سببه النظام العراقي السابق كان ضمنياً مستتراً مقنعاً بقناع زائف متخم بشعارات الدفاع عن العرب والعروبة.
لم يقدم النظام العراقي السابق إلى أمتنا أي خير منذ أن اعتلى السلطة عام 1968. مارس ابتزازاً وأثار انقساماً وأحبط جهوداً للتضامن في إطار محاولات مستمرة لانتزاع دور القيادة العربية. وإذا لم يتسن له ذلك، كان أهم دور قام به هو إضعاف العرب في مواجهة إسرائيل مقدماً لها أجل خدمة على هذا النحو. وقد قدمت له إسرائيل بدورها خدمة كان يريدها ولكنها قادته إلى الهاوية في النهاية.
فقد أدى التشدد الإسرائيلي الذي أحبط جهود التسوية السلمية إلى شحن الرأي العام العربي بالغضب ودفع قطاعات منه للإنصات إلى أي صوت مرتفع يردد شعارات المواجهة مهما كان زيفها، مما أتاح للرئيس العراقي السابق أن يرتدي ثوب "الزعيم" الأكثر حرصاً على كرامة الأمة والأوفر استعداداً للمنازلة على رغم كل ما ارتكبه من جرائم.
ولكن الخدمة التي قدمها صدام حسين ونظامه لإسرائيل كانت هي الأكبر والأكثر تأثيراً في النتيجة التي وصل إليها الصراع التاريخي في المنطقة. فهو لم يكتف بإخراج العراق بكل إمكاناته وقدراته من دائرة الصراع، بل أثرت سياساته سلباً على الأداء العربي العام في هذا الصراع وعلى قدرات دول المواجهة أو الطوق، وخصوصاً مصر وسوريا.
وقد حدث ذلك على مدى ما يقرب من 35 عاماً منذ انقلاب 1968 في العراق. كانت مصر وسوريا الخارجتان مجروحتين من حرب 1967 هما الهدف الأول لضربات النظام الذي أتى به هذا الانقلاب. وبدلاً من أن يكون عوناً لهما، سارع إلى تقليص الدعم الذي كان نظام عبدالرحمن عارف السابق عليه قد التزم به لدعم دول المواجهة. ولم تمض شهور حتى كانت القاهرة ودمشق هدفاً لحملات إعلامية عراقية متواصلة لسببين مختلفين. فقد أراد تقويض زعامة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر تمهيداً لتقدم العراق لاحتلال مكانة مصر القومية. ولذلك ركزت الحملة على عجز عبدالناصر عن تحقيق أي من الشعارات التي رفعها بدءاً من الوحدة وحتى تحرير فلسطين، مع اتهامه بأنه تسبب في احتلال الإسرائيليين لما كان قد بقي من فلسطين إضافة إلى أراضٍ مصرية وسورية.
أما الحملة على سوريا فكان هدفها تقويض حزب البعث السوري حتى لا يكون للقيادة العراقية منافس. وللسبب نفسه أيضاً نجح أحمد حسن البكر وصدام حسين في إقناع مؤسس الحزب ميشيل عفلق بالعودة من مهجره في البرازيل الذي كان قد هاجر إليه يأساً من حل الخلافات بين فروع البعث وقرفاً مما آلت إليه أوضاع الحزب. وبذهاب عفلق إلى بغداد أضفى "