مسيحيو القدس... كيف عاملهم العثمانيون؟
على ضوء السياسات الخارجية لبعض القوى الدولية الكبرى، وما يسِمُها من اهتمام لافت بموضوع التناقضات الداخلية للكيانات التي توجد ضمن مجالها الحيوي، وبالتساند مع معضلات الاندماج الوطني وأزمة المواطنة وتضعضع الرابطة الوطنية في دول ما بعد الاستقلال... عاد الحديث مجدداً حول الأقليات الدينية في البلدان العربية، وهو حديث حفل بالاتهامات والدفوع المضادة حول ما كانت عليه أوضاع الأقليات الدينية تاريخياً في البلاد الإسلامية؛ فكانت الدولة العثمانية مثالاً جاهزاً للتدليل على الكيفية التي تعامل بها "الإسلام" مع الطوائف والجماعات غير المسلمة في ديار الإسلام.
وقد انضاف إلى المكتبة العربية مؤخراً كتاب حول "نصارى القدس"، لمؤلفه الدكتور أحمد إبراهيم القضاة، وهو دراسة تاريخية غنية بالمعلومات والتفاصيل والحقائق، تتناول الأحوال العامة للمسيحيين في القرن التاسع عشر، اعتماداً على المعطيات الواردة في سجلات محكمة القدس الشرعية خلال الحكم العثماني. وينقسم الكتاب الذي يقع في حوالي 600 صفحة، إلى تمهيد وستة فصول؛ تتناول نظام الملة، وطوائف النصارى، وحياتهم الاجتماعية، ودورهم في الإدارة والتعليم، وفي الحياة الاقتصادية، وحياتهم الدينية، وموقف الدولة العثمانية منهم. فقد صدر قانون الملة عام 1454 في عهد السلطان محمد الفاتح، على أسس مستنبطة من المذهب الحنفي، ليعطي الحرية الدينية لكافة الطوائف، ويمنحها حق انتخاب رؤسائها الدينيين، كما يعطي لرؤساء الطوائف حق رعاية الشؤون العامة لطوائفهم. ووفقاً لما يقوله المؤلف فإن نظام الملة كانت له آثار إيجابية على أوضاع "أهل الذمة" ولصالح اندماجهم في جسم "الأمة العثمانية"، مع الاحتفاظ بكياناتهم الدينية وقوانينهم الخاصة، حيث منحهم حقوقاً مدنية ودينية وسلطة سياسية لم يتمتعوا بها قبل الفتح العثماني للقسطنطينية، أي في ظل الدولة البيزنطية نفسها. وقد تعرض نظام الملة لتغيرات كبيرة، خاصة خلال فترة الإصلاحات العثمانية (1839- 1856)، وبعد صدور قانون التبعية العثماني عام 1869 والذي أصبح بموجبه سائر قاطني أراضي الدولة العثمانية وولاياتها، عثمانيي الجنسية، بصرف النظر عن أصولهم العرقية أو انتماءاتهم الدينية.
واعتماداً على الرحلات المكتوبة وتقارير القناصل الأجانب والإحصاءات العثمانية الرسمية نفسها، يعتقد المؤلف أن نصارى القدس في بداية القرن التاسع عشر كانوا يمثلون ثلث سكانها، وأن أكبر طوائفهم كانت هي الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والأرمن. أما باقي طوائفهم الأخرى؛ فهي اللاتين، والأقباط، والأحباش، والسريان، والبروتستانت، والموارنة. وكان لكل طائفة اعتقاداتها وآراؤها الدينية وطقوسها ورجال دينها وكنائسها ومدارسها.
ويغوص الكتاب في بحث الأحوال الاجتماعية للنصارى في القدس، ويتطرق إلى تقاليد الزواج والطلاق والأسرة ومكانة المرأة والملابس والرقيق والمحلات التجارية والدور السكنية... ويذكر خلال ذلك أن طوائف النصارى تمتعت بإدارة شؤونها المدنية والدينية وفقاً لقانون الملل العثماني، لكن "خط التنظيمات الخيرية" الصادر عام 1856 اختزل اختصاصات رجال الطوائف النصرانية في دعاوى الأحوال الشخصية، وقد استهدفت الدولة بذلك إيجاد سلطة الرقابة على صلاحيات البطاركة الزمنية لكبح حالات سوء استخدامهم للسلطة المطلقة. وكان الزواج يتم بين أبناء الطائفة الواحدة ونادراً ما حصل تزاوج بين طائفتين.
وعن دور النصارى في الحياة العامة، يقول المؤلف إن كثيراً من أفرادهم شغلوا وظائف إدارية وتربوية ومالية؛ فشاركوا في مجلس إدارة لواء القدس الذي انشئ عام 1848، وفي المجلس البلدي للقدس لدى إنشائه عام 1867، وكانوا يشاركون في الجهاز الإداري من خلال تولي وظائف المختار، والمترجم، ومدير النافعة... وقد شغلوا أيضاً وظائف الصراف والكاتب ومأمور الجمرك ومدير البنك العثماني. وشاركوا في الجهاز القضائي كأعضاء في كل من مجلس دعاوى لواء القدس، ومحكمة البداية، ومحكمة التجارة. أما في مجال التعليم فكان لكل طائفة مؤسساتها التعليمية وأساليبها الخاصة في التعليم، فظهرت مدارس طائفة الأرمن، ومدارس طائفة الأقباط، ومدارس الروم الكاثوليك، ومدارس الروم الأرثوذكس، ومدارس طائفة البروتستانت... إضافة إلى مدارس الإرساليات البريطانية والألمانية والفرنسية والأميركية... وقد خضعت جميعها لإشراف الرهبان والراهبات، وكان المحتوى التعليمي فيها يغلب عليه الطابع الديني.
وفي المجال الاقتصادي، حيث كانت الأرض أهم مورد اقتصادي في حينه، يقول المؤلف إن نصارى القدس امتلكوا أراضي زراعية وسكنية واسعة خاصة بهم، وقد تصرفوا بها بيعاً وشراءً ووقفاً، وتضاعفت ملكياتهم العقارية بعد صدور قانون الأراضي العثماني لسنة 1858 والذي نص على تمليك الأراضي الميرية وتسجيلها بأسماء القائمين بزراعتها. كذلك اهتم نصارى القدس باقتناء المواشي والحيوانات للإفادة منها في مجال الزراعة وتوفير اللحوم والألبان، وكانوا أصحاب مهن صناعية ومعامل تنتج الأدوات والأواني النحاسية، والصباغة، والنجارة، والأحذية، والصابون، والشموع، والمنسوجات. وبفضل الثروات الطائلة التي جناها نصارى القدس، من التجارة والصناعة والزراعة، فقد أنشأوا شركات تجاربة مثل "شركة المضاربة" و"شركة المفاوضة" و"شركة العنان"...
أما فيما يتعلق بموقف الدولة العثمانية من النصارى، فيقول المؤلف إن القرن التاسع عشر، وكان قرن التغييرات السياسية والضعف في السلطنة العثمانية، شهد قانوني "خط شريف كولخانة" و"خط التنظيمات الخيرية" (في عهد السلطان عبد المجيد)، وكانا بمثابة اعتراف من الدولة بحقوق النصارى وإطلاق حرياتهم الدينية، ومساواتهم مع المسلمين في الحقوق والواجبات.
وبذلك يصل الكتاب إلى خلاصة مفادها أن الدولة العثمانية لم تضع العقبات أمام رعاياها من النصارى، بل أتاحت لهم قدراً كبيراً من الحرية. وكما ساهموا في الحياة الاقتصادية بدور مميز، وشاركوا في أجهزة الحكم والإدارة، فقد تميزت علاقتهم مع مسلمي القدس بالسلاسة والود في أغلب الأحيان.
محمد ولد المنى
الكتاب: نصارى القدس
المؤلف: د. أحمد إبراهيم القضاة