سُئل أحد زعماء المليشيات الطائفية عن سر بكائه الشديد على الموتى من طائفة أخرى، فأجاب بأن البكاء "يؤذي الميت"!.. هذه نكتة 25 مليون دولار التي أعلنت حكومة الاحتلال في بغداد عن تخصيصها للعراقيين اللاجئين في الخارج. فعدد اللاجئين الذين غادروا البلد أكثر من مليونين، أي أن حصة الواحد منهم تبلغ نحو عشرة دولارات. ولا يمكن تصور مهانة المبلغ من دون إدراك مسؤولية المحتلين والحكومات الطائفية التي نصّبوها في بغداد عن أكبر عملية نزوح جماعي في تاريخ العالم الحديث. فعدد المهاجرين والمشردين داخل وخارج العراق يبلغ، حسب تقديرات "الأمم المتحدة"، نحو أربعة ملايين ونصف المليون. أي أن خُمس العراقيين تشردوا من منازلهم، وفقدوا وسائل رزقهم، بسبب السياسات الطائفية المتعمدة للاحتلال وحكوماته. وتغطي الأرقام الكبيرة التي تفوق الخيال الوجه المفجع للمأساة المروّعة. فقصص هروب معظم النازحين والمهاجرين العراقيين مسربلة بالعذاب والرعب والدم. وكثير منهم فرّوا هاربين بحياتهم وحياة ذويهم، بعد مقتل أفراد في الأسرة، أو أصدقاء، أو تدمير مساكنهم ومصادر رزقهم. والغربة موت من نوع آخر بالنسبة لنازحين غادروا لأول مرة في حياتهم بلدهم ومدينتهم، بل المنزل الذي ولدوا وعاشوا فيه طوال عمرهم. وهل يمكن تصور صدمة التشرد على كيان الأسر الهاربة؟.. وماذا عن آثار نزوح ملايين العراقيين على الجغرافيا السياسية والاقتصادية والثقافية للبلد والمنطقة؟ فالعالم أمام ظاهرة قلّ نظيرها في التاريخ، حيث تحركت بشكل غريزي كتلة بشرية هائلة وقلقة. تضم هذه الكتلة نخبة الطبقة المتوسطة العراقية النشطة والفعالة، والمتمرسة في الحكم وإدارة شؤون البلد والمجتمع. ويصعب سبر أغوار القوة الكامنة لهذه النخبة، الطالعة من بلد يحتل المرتبة الثالثة، وربما الأولى في احتياطيات الطاقة العالمية. وكالزلازل التي يطلقها الزحف القاري، يستحيل رصد حركة الفالق الزلزالي العراقي في الكتلة الجغرافية السكانية الممتدة من شرق آسيا حتى غرب أفريقيا. وهل يمكن حساب الرجع البعيد للزلزال، إذا نال اللاجئون حقوقهم القانونية المنصوص عليها في قرارات "الأمم المتحدة" الخاصة بالعراق؟ تلقي بعض الضوء على ذلك مذكرة رفعها في الأسبوع الماضي عدد من الدبلوماسيين والحقوقيين والأكاديميين إلى "مجلس الأمن الدولي"، أكدت على أن غياب الطبقة المتوسطة أدّى إلى انهيار الخدمات العامة في المجتمع العراقي بأسره. وأوردت المذكرة نصوص "اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة باللاجئين" التي تحدد الوضع القانوني للعراقيين النازحين كلاجئين، وما يترتب لهم عن ذلك من حقوق خاصة "بالأمن، والحصول على جوازات معترف بها دولياً، وسمات إقامة في البلدان المضيفة، وحقهم في خدمات الغذاء والسكن والصحة والتعليم". وأشارت المذكرة إلى أن الأضرار الفادحة الناجمة عن التقاعس في تأمين التعليم في المدارس والجامعات للعراقيين النازحين، لا تقتصر عليهم وحدهم، بل تهدد مستقبل العراق نفسه، وتحرم البلدان المضيفة لهم من القدرات الغنية التي يمتلكها العراقيون النازحون. ودعت المذكرة "مجلس الأمن" إلى إصدار قرار لتخصيص مبالغ من موارد النفط للاجئين، استناداً إلى "حقهم، كمواطنين عراقيين في العيش بكرامة، وحقهم في الانتفاع بشكل منصفٍ بمواردهم الوطنية، وحقهم في العودة إلى منازلهم". وأرفق بالمذكرة أكثر من خمسين قرارا صادرا من "مجلس الأمن الدولي"، و"المفوضية العليا للاجئين"، و"منظمة الصحة العالمية"، وغيرها من منظمات "الأمم المتحدة". تؤكد هذه الوثائق على امتلاك "مجلس الأمن" السلطة القانونية والسياسية لتمرير قرار يطالب الدولة العراقية بتخصيص جزء من الموارد النفطية بما يعادل أعداد المواطنين العراقيين اللاجئين إلى دول الجوار. وكشفت المذكرة عن سوابق قانونية لذلك، كالقرار 986 الصادر عن "مجلس الأمن" عام 1995، والذي أجبر الدولة العراقية على تخصيص جزء من موارد البلد النفطية إلى "برنامج الأمم المتحدة الإنساني"، وذلك "لضمان التوزيع المنصف للمعونات الإنسانية على جميع قطاعات المجتمع العراقي"، بما في ذلك المواطنون العراقيون المقيمون خارج إشراف الحكومة المركزية. ويمكن أن تتولى رصد وتوزيع هذه الموارد وكالات "الأمم المتحدة" للإغاثة، ومؤسسات البلدان المضيفة، والمنظمات غير الحكومية، وممثلو اللاجئين العراقيين. وحملت المذكرة تواقيع عدد من المسؤولين السابقين في "الأمم المتحدة"، بينهم دنيس هاليداي، الأمين العام المساعد السابق للمنظمة الدولية، وهانس فون سبونيك، منسق الأمم المتحدة سابقاً للشؤون الإنسانية في العراق، وسعيد حسن، الممثل الدائم للعراق سابقاً في الأمم المتحدة. ووقع على المذكرة مسؤولون وخبراء عراقيون في النفط معروفين على صعيد عربي وعالمي، بينهم وزراء، ووكلاء وزارات سابقين، كعصام الجلبي، وقاسم العريبي، وطارق شفيق الذي شارك في صياغة النص الأصلي لقانون النفط الجديد، وسعد الله فتحي الذي ارتبط اسمه بإنشاء مصفاة "بيجي" في العراق التي كانت تعد من أكبر مصافي المنطقة في ثمانينيات القرن الماضي. واعتمدت المذكرة على استقصاءات ميدانية في أماكن لجوء العراقيين في سوريا والأردن ومصر أشرفت عليها هناء البياتي، وهي كاتبة سياسية ومخرجة سينمائية عراقية فرنسية، مقيمة في القاهرة. وعزّزت المعلومات الواردة في المذكرة تحفظات "مفوضية اللاجئين" عن المبالغة في التقارير الأخيرة حول عودة اللاجئين العراقيين. فظاهرة العودة تقتصر على سوريا، حيث شرعت السلطات بالامتناع عن تجديد سمات اللاجئين وختمت جوازاتهم بالمغادرة، حسب مكتب "مفوضية اللاجئين" في دمشق. وقد أشارت تقديرات "المنظمة الدولية" في شهر أكتوبر الماضي إلى أن معدل عدد العراقيين النازحين إلى الخارج يبلغ 60 ألف شخص شهرياً، ويبلغ عدد الذين يغادرون مواقع سكناهم بألفي شخص يومياً، أي بمعدل 80 شخصاً في كل ساعة من ساعات الليل والنهار. وامتدت حركة الهجرة حتى إلى محافظة النجف التي يُفترض أن تكون آمنة بحكم مركزها المذهبي. وذكرت صحيفة "إنترناشينال هيرالد تريبيون" أن عدد النازحين من النجف بلغ 60 ألف شخص، حسب الإحصاءات الحكومية. لكن العدد الحقيقي يبلغ أضعاف ذلك، حسب الصحيفة الأميركية التي نقلت عن كمال عبد الزهرة، مدير مكتب "الهلال الأحمر العراقي" في النجف أن عدد النازحين يبلغ 400 ألف. وأطلقت المذكرة حملة تأييد دولية من مختلف البلدان حال نشرها في موقع الإنترنت: http://3iii.org/campaign وشارك في الحملة مئات الأكاديميين والمهندسين والأطباء والكتاب وقادة منظمات غير حكومية من جميع القارات، بينهم شخصيات معروفة على صعيد عالمي، كالعالم الياباني "تيراوت تيرومي"، البروفيسور في "معهد ناغويا التكنولوجي"، و"نيلوفر بغواتي"، نائبة رئيس اتحاد المحامين في الهند، و"غيدون بوليا" عالم الكيمياء الحيوية الأسترالي المعروف ببحثه المعنون "محرقة الولايات المتحدة قتلت مليون عراقي". وبين المشاركين أكاديميون عراقيون مرموقون من خارج وداخل العراق. وتمثل مشاركات بعض العراقيين شهادات عاطفية مؤثرة، كقول مترجم عراقي يبحث عن عمل في مدينة دبي: "لا أستطيع العودة إلى العراق، ولا أجد مكاناً آخر". وتساءلت مغتربة عراقية في النرويج: "بأي حق يُعذب شعب بأكمله في وضح النهار... والكل يعلم ويرى ويسمع الألم... وكأن العراقيين صراصير وأطفالهم بعوض يجب سحقهم"!