بعد أن عرّجنا على مسألة "العولمة والهوية ومسألة المواكبة في التعليم العالي"، التي كانت قضية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في ندوتها بدبي في الأسبوع الأول من الشهر الماضي، نعود إلى ندوة منتدى جريدة "الاتحاد"، التي انعقدت قبل ذلك بنحو أسبوعين في أبوظبي تحت عنوان عام صيغ كما يلي: "تحديات الثقافة العربية في عصر العولمة". وكانت الندوة مقتصرة على الزملاء كتاب صفحات "وجهات نظر" الخاصة بهذه الجريدة. وقد سبق أن ذكرتُ في المقال، ما قبل الأخير، أني ساهمت في هذا اللقاء بما يشبه محاضرة كان عنوانها من اقتراح منظمي المنتدى كما يلي: "طبيعة العلاقة بين ثقافة النخبة وثقافة المجتمع وأثرها في تطور المشهد العربي منذ الخمسينات". لقد ركزت في هذا المقال/ المحاضرة على تطور مفهوم الثقافة، وما يحمله من إشكاليات منذ الخمسينات إلى اليوم. أما موضوع "ثقافة النخبة وثقافة المجتمع" فقد تجنبت الخوض فيه بتطويل حرصاً على الإبقاء على جانب "التطور" أعني الجانب التاريخي، لأن الخروج إلى مسألة العلاقة بن النخبة والمجتمع -على المستوى الثقافي على الأقل- يجر إلى الخوض في "مفهوم النخبة" الذي لم يستقر في يوم من الأيام على تصور مشترك -واضح أو شبه واضح- بين الباحثين. وقد تتاح لنا الفرصة هنا، في هذه المقالات التي نعرض فيها لما تحدثنا عنه على مستوى تطور مفهوم الثقافة وإشكالياته كما عاشتها الثقافة العربية منذ الخمسينات إلى اليوم، أقول قد تتاح لنا فرصة طرح مسألة "النخبة" بصورة عامة والنخبة الثقافية بصورة خاصة. أما الآن فلنبدأ بطرح سؤال البداية: متى ظهر مفهوم "الثقافة" في الخطاب العربي الحديث والمعاصر، وبأي معنى؟ غني عن البيان القول إن كلمة "ثقافة" ترتبط في أذهاننا اليوم بشؤون الفكر عامة، ولكنها مع ذلك، لا تثير فينا مضموناً واضحاً محدداً. ولعل السبب في هذا، راجع إلى أن هذه الكلمة حديثة العهد في خطابنا العربي. فمعاجمنا القديمة لا تعطينا عن أصل هذه الكلمة ومشتقاته إلا هاتين الدلالتين أو ما يشبههما: "يقال ثقف الولد، إذا صار حاذقاً... وثقف الكلام: حذقه وفهمه بسرعة". ويقال كذلك: "ثقف الرمح إذا قوّمه وسوّاه". وهكذا نلاحظ أن معنى "الثقافة" عند أجدادنا العرب كان: الحذق والذكاء وسرعة الفهم، فهي من هذه الناحية خصلة عقلية وليست مفهوماً مجرداً. كما أن التثقيف كان يعني التقويم والتسوية وهو خاص بالرمح والعود، ولم يعثر على ما يفيد امتداد هذا المعنى -معنى تثقيف الرمح- إلى الفكر أو الذهن، فالكلمة التي كانت مستعملة في هذا الشأن هي "التأديب"! كما أن "الأدب" كان يضم ما نعنيه اليوم بالثقافة، فضلاً عن معناه السلوكي الأخلاقي. ومنه "المؤدِّب" بمعنى المربِّي والمعلم... كل ذلك يدل على أن كلمة "ثقافة" لم تكن في أصلها العربي مصطلحاً لشيء من الأشياء الفكرية، ولا مفهوماً يتمتع بقوة المفهوم، أي بدلالة معينة محددة، عامة ومجردة. ومن هنا يتأكد ذلك الرأي القائل: إن كلمة "ثقافة" في الاستعمال العربي الحديث، كلمة مولَّدة، اشتقت للدلالة على المعنى المجازي لكلمة culture. وهو اشتقاق موفق، خصوصاً إذا لاحظنا ذلك التقارب بين المعنى الأصلي لكلمة الحِذق والتسوية، والمعنى الجديد الذي صيغت للدلالة عليه. إن كلمة culture (الفرنسية) تعني في الأصل الزراعة والفلاحة. وقد تطور مدلولها، ابتداء من القرن السادس عشر، لتفيد معنى مجازياً هو "تنمية بعض القدرات العقلية بالتدريب والمِران"، ثم لتدل بعد ذلك على "مجموع المعارف المكتسبة التي تمكن من تنمية روح النقد والقدرة على الحكم". لقد نقلت الكلمة الفرنسية إذن: من زراعة الأرض واستغلال خيراتها إلى تدريب الفكر وجني ثمراته، ومن "نتاج الأرض" إلى "نتاج الفكر". وسرعان ما وقع التأكيد على أن مدلولها في ميدان الفكر يجب أن ينصرف إلى فعل الإنتاج أكثر من الإلحاح على الإنتاج نفسه، بمعنى أن المقصود منها يجب أن يكون ما يكسبه العقل من قدرات على التفكير السليم والمحاكمة الصحيحة، بفضل المعارف التي يتلقاها، والتجارب التي يخوضها، لا ما يضمه الفكر بين طياته من معارف ومعلومات. لقد ألح كثير من الكتاب الفرنسيين منذ عهد النهضة على هذا المعنى، ويكفي أن نشير إلى تلك التفرقة الشهيرة التي أقامها مونتني Montaigne بين ما سماه "الرؤوس المصنوعة جيداً" وما أطلق عليه: "الرؤوس المملوءة جداً" مفضلاً الأولى على الثانية. ولعل الكثيرين منا سمعوا أيضاً بذلك التعريف الطريف الذي أعطاه المسيو Herriot لـ"الثقافة" حين قال: إنها "ما يبقى لدينا بعد أن ننسى كل شيء". هذا بالإجمال ما يتعلق بالمعنى الفرنسي للكلمة. ولابد من أن نطل هنا على ذلك المعنى الخاص الذي يستعمله فيها علماء الأنثروبولوجيا، خاصة الإنجلوساكسون منهم. إنها تدل عندهم على"مختلف المظاهر المادية والفكرية لمجموعة بشرية معينة تشكل مجتمعاً بالمعنى السوسيولوجي للكلمة. يقول تايلور Taylor في نص متداول بكثرة: إن الثقافة هي "ذلك المركَّب الكلي الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات وأي قدرات وخصال يكتسبها الإنسان نتيجة وجوده عضواً في مجتمع". وعلى العموم إن كلمة "ثقافة" في الاصطلاح الأنثروبولوجي تعني ما نعبر عنه نحن اليوم بـ"حضارة". إنها ليست البناء الفكري وحسب، بل إنها أيضاً السلوك الفردي والمجتمعي وما يرتبط بهما من تقاليد وأعراف وأخلاق. وقد يضاف إلى ذاك كله أدوات العمل والإنتاج. تلك كانت، على العموم، الدلالات الرئيسية لمصطلح "ثقافة" كما بدأت تروج في الخطاب العربي منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي. ومع ذلك فإنه لابد من القول إن ما كان يشغل الفكر العربي في الخمسينات والستينات ليس المعنى المعرفي الأكاديمي ولا المعنى الأنثروبولوجي لمفهوم الثقافة، بقدر ما كان يشغله مفهوم آخر كان بروزه نتيجة لعمليات تصفية الاستعمار في ما أصبح يسمى منذ ذلك الوقت بـ"العالم الثالث". نقصد بذلك مفهوم "الثقافة الوطنية"؟ لقد كان المعنى الأنثروبولوجي للكلمة اصطلاحاً فنياً خاصاً بأولئك الذين يُعنون بالبحث في أصل الحضارات وخصائصها المميزة، خصوصاً البدائية منها، وهذا موضوع لم يكن يهم بشكل مباشر عالم الفكر في الأقطار العربية التي كان الكثير منها محكوماً بما كان يسمى "القضية الوطنية"، سواء تمثلت في الكفاح من أجل الاستقلال أو من أجل الجلاء أو من أجل تحرير الثقافات الوطنية مما تعرضت له من تدمير في العهد الاستعماري. ومنذ ذلك الوقت، كان النظر إلى الثقافة بوجه عام، أعني الثقافة بمعناها المعرفي والوطني، يتم من على ثلاثة مستويات: - هناك الثقافة على المستوى الفردي، والمقصود: تمثل الفرد الإنساني لذلك المضمون للثقافة (الوطنية والإنسانية)، أو لأي جزء من أجزائه، ومشاركته في إغنائه وإثرائه. إن المثقف، بهذا المعنى، هو من يتمثل ثقافة وطنه خاصة والثقافة الإنسانية عامة، ويشارك في تنمية هذه وتلك بشكل من أشكال المشاركة. - وهناك من جهة ثانية: الثقافة على المستوى الشعبي من حيث كونها تعكس واقع المجتمع الذي تنتسب إليه: تعكس وضعيته ومطامحه واتجاه مسيرته. والحق أن الثقافة مرتبطة دوماً بوضعية اجتماعية معينة وبمرحلة تاريخية محددة، ارتباطاً عضوياً: إنها تعبر، بشكل ما، عن الوضع القائم وعن حركة المجتمع، حركته في الزمان، وتحرك أفراده ومجموعاته في إطار العلاقات الاجتماعية القائمة. وانطلاقاً من هذه الملاحظة نستطيع القول إنه لا يمكن الحديث عن ثقافة مجتمع ما بكيفية مطلقة. إن الثقافة هي دوماً ثقافة فئة، ثقافة عصر. إنها ثقافة الخاصة أو ثقافة العامة بالتعبير القديم، ثقافة النخبة أو ثقافة الجمهور بالتعبير الحديث. - أما في المستوى الثالث، ونعني به المستوى الإنساني العام بقطع النظر عن الزمان والمكان، فإن الثقافة هي الأعمال الفكرية والفنية الخالدة، أي تلك الأعمال التي تعبر عن موقف الإنسان إزاء الطبيعة وما وراء الطبيعة، إزاء نفسه ومصيره.