وقفت السيدة "وانج" أمام أحد أرفف زيوت الطعام في أكبر سوبرماركت في العاصمة بكين، وهي تلقي نظرة فاحصة على ديباجة السعر الموضوعة على أحد منتجات الزيت، وقالت هذه السيدة الصينية –التي اكتفت بذكر اسمها الأول فحسب- إنها كانت قادرة على شراء ما تحتاجه من زيوت الطعام المفضلة لديها، والتي لا غنى عنها في طهي أي من المأكولات الصينية في الماضي بسعر معقول يتناسب ودخلها المتواضع الذي تتقاضاه كعاملة متقاعدة، أما اليوم فهي تفضل شراء أرخص الأنواع الموجودة من هذه الزيوت، لكونها تشعر مثل الكثيرين غيرها بوطأة الارتفاع الهائل الذي حدث لأسعار المنتجات الغذائية عموماً وزيوت الطعام خاصة، وأضافت: نحن لا نعيش تلك الحياة الرخية التي عشناها من قبل هذين اليومين. لقد أدى ارتفاع أسعار المواد الغذائية الصينية هذا العام بنسبة 17.6 في المائة -مقارنة بما كانت عليه الأسعار في العام الماضي- إلى ارتفاع مؤشر أسعار السلع الاستهلاكية عموماً إلى مدى لم تبلغه خلال العقد الماضي كله، وفقاً لما أظهرته الأرقام الرسمية الحكومية المنشورة في الأسبوع الماضي. ولهذه المعاناة التي تحدثت عنها السيدة وانج، انعكاساتها على الجزء الغالب من المواطنين الصينيين. فبمقارنة الأسعار الاستهلاكية في شهر أكتوبر الماضي بما كانت عليه في الشهر نفسه من العام الماضي، يلاحظ أنها شهدت ارتفاعاً بنسبة 6.5 في المائة خلال العام الحالي، وفقاً للبيانات الإحصائية التي نشرها "مكتب الإحصاء القومي" يوم الثلاثاء الماضي. ويعد هذا الارتفاع الأعلى من نوعه خلال الأحد عشر عاماً الماضية. يذكر أن البنك المركزي الصيني قد أمّل في وضع حد للتضخم الاقتصادي في البلاد، بحيث لا يتجاوز سقفه نسبة 3 في المائة فحسب. وتعد السلع الاستهلاكية الغذائية المسؤول الرئيسي عن هذا التضخم، وبخاصة اللحوم، إذ شهدت لحوم الخنزير ارتفاعاً جنونياً بلغت نسبته 54.9 في المائة خلال العام الماضي وحده بسبب النقص الحاد فيها. أما لحوم الدواجن فشهدت هي الأخرى ارتفاعاً بلغت نسبته 38.8 في المائة. ثم تلي اللحوم أسعار زيوت الطعام التي ارتفعت بنسبة تصل حتى 34 في المائة ليليها ارتفاع نسبة أسعار الخضروات إلى 29.9 في المائة. وفي إطار شكوى المواطنين الصينيين من غلاء الأسعار وتدافعهم على التخفيضات وشراء السلع الرخيصة، لقي ثلاثة من الباعة في أحد المراكز التجارية في قلب مدينة "شونجكينج" مصرعهم الأسبوع الماضي، أثناء عراك المشترين وتدافعهم على شراء السلع الغذائية المعروضة بأسعار مخفضة. يذكر أن المركز المذكور قد قدم تلك السلع على أساس عرض محدود الأجل بتخفيض في السعر بلغت نسبته 20 في المائة، احتفالاً بالذكرى العاشرة لإنشائه في تلك المدينة، وأن ذلك التخفيض يوفر للمستهلكين فرصة للحصول على ما يعادل 1.53 في المائة من زجاجات الزيت. ومما لا شك فيه أن تخفيضاً كهذا يعني الكثير بالنسبة للملايين من الفقراء الصينيين. ذلك هو ما اعترف به مؤخراً رئيس الوزراء الصيني "وين جياباو" أثناء زيارة قام بها يوم الاثنين الماضي إلى إحدى ضواحي العاصمة بكين المكتظة بالمواطنين الفقراء، وهي الزيارة التي جاءت في إطار إبداء الحكومة الصينية اهتمامها بتأثيرات التضخم على حياة المواطنين، وقال معلقاً في هذا المعنى: "لقد تواصل ارتفاع الأسعار هذين اليومين، لدرجة أني أبدي قلقاً جدياً من أن تؤثر زيادة يون واحد –أي ما يعادل نحو 0.013 دولار- في سعر أي من السلع التي يستهلكها المواطنون على مجمل حياة المواطنين ومعيشتهم اليومية. وحث السيد "جياباو" المخدمين على زيادة رواتب العاملين واحترام قوانين الحد الأدنى للأجور. ولم ينس المسؤولون الصينيون بالطبع، العلاقة القائمة بين التضخم الاقتصادي والتململ الاجتماعي والاحتجاجات الشعبية، ولا تزال راسخة في أذهانهم إلى اليوم، أحداث ساحة "تيانامين" التي شهدت تظاهرات الطلاب في عام 1989، وما أفضت إليه من مذبحة راح ضحيتها الكثيرون، فقد كان التضخم الاقتصادي وانفلات السيطرة على أسعار السلع، من أهم العوامل التي أشعلت فتيل تلك المظاهرات، ليس ذلك فحسب، بل من المستبعد جداً أن تغيب عن فطنة هؤلاء المسؤولين حقيقة أن الارتفاع المفاجئ في أسعار زيوت الطعام بصفة خاصة، كان سبباً مباشراً للهزات والاحتجاجات الشعبية التي شهدتها مؤخراً كل من بورما والنيبال وإندونيسيا المجاورة. وكما قال "فانج شينج" -صاحب متجر صغير لِـ"النودلز" بمنطقة لوان في شانجهاي-، فإن الكثيرين يتساءلون عما يجري هذه الأيام في الأسواق وعمن يتصدى لحل هذه المشكلة؟ واتهم "شينج" حكومة بلاده بكون مسؤوليها أكثر اهتماماً بألا تلحق بهم تهم الفساد وفضائحه، من اهتمامهم وجديتهم في حل المشكلات الاقتصادية والمعيشية الطاحنة التي يواجهها المواطنون. أما السائق "جوو جانكوان" فقال معلقاً: إن الأسعار قد واصلت ارتفاعها وسوف تستمر على هذا الارتفاع لفترة طويلة من الوقت على الأرجح، وإنه لا سبيل للمواطنين من أن يدفعوا مبالغ أكبر من المال اليوم، كي يحصلوا على ما اعتادوا عليه في الماضي بأسعار أزهد. وهذا هو عين ما أكده الاقتصاديون المختصون، الذين لم يبد منهم أي تفاؤل باحتمال انخفاض الأسعار قريباً، ومن رأيهم أن لسياسات اقتصاد السوق الحر التي تنتهجها الصين، علاقة بتكرار حالات ارتفاع السلع الاستهلاكية بوجه عام. من هؤلاء قال "زو زيخين" مدير "لجنة التنمية القومية والإصلاح" في تصريح له مؤخراً: "بالنظر إلى دورات الإنتاج الزراعي الحالية، فإن المرجح أن تظل أسعار المنتجات الغذائية على ارتفاعها لفترة من الوقت، غير أنني لا أتوقع لها أن تشهد ارتفاعاً كبيراً في المدى البعيد". بيتر فورد - بكين ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"