أصبحت قضايا البيئة وهواجسها محط نقاش عالمي قلما تخلو منه الأجندات الوطنية والسياسات الحكومية في الدول الصناعية التي باتت تستشعر أكثر من غيرها الأخطار والتحديات المحدقة بالبيئة على ضوء تفاقم التغيرات المناخية. ومع أن دول العالم قاطبة سارعت إلى تبني سياسات تحافظ على البيئة فراحت الدول الأوروبية مثلاً تفرض ضريبة على استهلاك الوقود وتعزز المواصلات العامة، ناهيك عن الاستثمار في تكنولوجيا الطاقة، واستجابت بعض الدول النامية التي شرعت هي الأخرى في اتخاذ إجراءات تحد من انبعاث الغازات السامة... لكن تبقى الولايات المتحدة الدولة الصناعية الوحيدة التي لم تحسم بعد مسألة التدخل الحكومي لحماية البيئة. هذا الموقف المتردد هو ما يسعى الكتاب الذي نعرضه اليوم، "عقد مع الأرض"، إلى تبديده عبر محاولة يقوم بها مؤلفاه، "تيري مابل" و"نيوت جينجريتش"، لإقناع النخب الأميركية السياسية والاقتصادية بالانضمام إلى الزخم العالمي المتولد عن قضايا البيئة والتحسيس بأهميتها القصوى. ولا بد من الإشارة إلى أن "تيري مابل" الذي يملك حديقة حيوانات خاصة في ولاية فلوريدا، و"نيوت جينجريتش" الذي درس القضايا البيئية قبل دخوله الكونجرس ممثلاً لولاية جورجيا، مهيآن تماماً للحديث عن موضوع البيئة والحفاظ على كوكب الأرض. واللافت أنهما لم يتركا مجالاً للاعتبارات الأيديولوجية، أو المواقف الحزبية المنحازة كي تتداخل مع المقاربة الموضوعية للبيئة. فرغم الجذور المحافظة لـ"جينجريتش" ومواقفه اليمينية، باعتباره أحد أنشط أعضاء "الحزب الجمهوري"، فقد اتخذ في كتابه الحالي مساراً مختلفاً ينأى بنفسه عن التنافس الحزبي الأميركي ويُحمل القيادة الأميركية من كلا الحزبين مسؤولية التدهور المناخي وعدم مواكبة السياسات البيئية التي سبقت إليها الدول الأوروبية. وفي هذا الإطار يطرح الكتاب اقتراحات، أو التزامات يتعين إيلاؤها الأهمية المطلوبة من قبل النخب الأميركية، ويأتي في مقدمتها "خلق جيل جديد من رجال الأعمال الناشطين في المجال البيئي". وهنا يبرز التحول الذي طرأ على "جينجريتش"، حيث انتقل من الدفاع المستميت عن السياسات اليمينية الرافضة لتدخل الدولة في الاقتصاد، ومن انتقاد دعاة الحفاظ على البيئة باعتبارهم مناهضين لقانون السوق، إلى شخص لا يرى تعارضاً بين الحفاظ على البيئة وازدهار الأعمال. بل إن الكتاب يطرح فكرة جديدة مفادها أنه بدون بيئة صحية وأرض معافاة من العلل الناشئة عن التلوث وما يصاحبها من تغيرات مناخية لن يستطيع الإنسان بناء اقتصاد مزدهر يستجيب لطموحات الفئات الواسعة من المواطنين. وفي هذا الإطار يطالب المؤلفان "بنبذ التصور القائم على وجود تعارض بين المبادرة الحرة والدفاع عن البيئة"، ويضيف "جينجريتش" أن هناك أرباحاً يمكن جنيها من خلال ترشيد استهلاك الطاقة، كما أن هناك تكاليف قد تكون باهظة أحياناً إذا استمر العالم، وأميركا خصوصاً، في "تجاهل الإشارات المحذرة من الوضع المتدهور لكوكبنا". والكتاب الذي فضل الابتعاد عن الجدل الأيديولوجي ولم يتردد في الاقتراب أحياناً من المواقف اليسارية التي يتبناها بعض أعضاء الحزب الديمقراطي والمعروفة بدفاعها عن القوانين الصارمة للحفاظ على البيئة وتحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. لكن "جينجريتش" لم يتخلَ تماماً عن قناعاته الاقتصادية، إذ يدعو فقط إلى حل وسط والتقريب بين المواقف المتباعدة التي إما ترى في القوانين البيئية إضراراً كاملا بالاقتصاد، أو إنقاذاً مطلقا للبيئة. وفي هذا الإطار مازال "جينجريتش" متحفظاً إزاء مسألة فرض ضريبة على الكربون كما ينادي بذلك بعض الفاعلين وأصحاب الرأي في الولايات المتحدة مثل "توماس فريدمان" وغيره. ويقترح بدلاً من ذلك وضع مجموعة من الحوافز لتشجيع الشركات على الاستثمار في تقنيات الحد من الانبعاثات السامة والتكنولوجيا الجديدة مثل محرك الهيدروجين. لكن بدون إرساء الجدوى الاقتصادية لبدائل الكربون وتسويقها على نطاق واسع يرفض الكاتب إثقال كاهل الشركات والأشخاص بالضرائب. وفيما يتعلق بالدور الأميركي في مجال حماية البيئة والحد من الانبعاثات يقترح الكاتب تضمين المساعدات الأميركية إلى الخارج عنصراً بيئياً، بحيث تضاف البيئة إلى الاعتبارات السياسية لتحديد الدول المستحقة للمساعدات الأميركية بعد سن السياسات الملائمة في الداخل. فالكتاب واضح في ضرورة تقديم النموذج الجيد في مجال البيئة بأن يظهر القادة الأميركيون التزاماً أكبر بالانشغالات البيئية. بيد أن "جينجريتش" الذي يدافع عن البيئة ويدعو إلى تبني التكنولوجيا الجديدة للحد من انبعاث الكربون، يصر على موقفه المناهض لبروتوكول كيوتو، معتبراً أن البروتوكول الدولي معادٍ لأميركا مادام يسعى إلى فرض جدول زمني محدد دون الأخذ بعين الاعتبار المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة، فضلاً عن انتقاده رفض الصين والهند الانضمام إلى البروتوكول، رغم استهلاكهما المتنامي للطاقة ودورهما الكبير في انبعاث الكربون. لكن الاختلافات التي تظل قائمة في وجهات النظر حول السبل الكفيلة بالحفاظ على البيئة والتقليل من مخاطر التغيرات المناخية مثل التركيز على الحوافز بدل الضرائب، ومعارضة بروتوكول كيوتو وغيرها، لا تلغي مساعي الكاتب التوافقية والرامية إلى ردم الهوة بين الليبراليين والمحافظين في الولايات المتحدة والخروج بحلول وسط يتفق عليها الطرفان. وإذا كان الكتاب قد نجح في جعل البيئة مسؤولية مشتركة بين الأطياف السياسية المختلفة في أميركا، إلا أنه ظل مع ذلك بعيداً عن المواضيع الخلافية والمثيرة للجدل، كما ظلت اقتراحات الكتاب عامة في مجملها لا تنفذ إلى عمق القضايا البيئية ولا تحيط بكامل التفاصيل. زهير الكساب الكتاب: عقد مع الأرض المؤلفان: "تيري مابل"، و"نيوت جينجريتش" الناشر: جون هوبكينز يونيفيرستي بريس تاريخ النشر: 2007