تأملات في الأزمة التركية - الكردية
تصاعدت في الآونة الأخيرة نذر تدخل عسكري تركي في شمال العراق، والسبب معروف بطبيعة الحال وهو الرد على هجمات حزب العمال الكردستاني الذي أعلن منذ ثمانينات القرن الماضي الكفاح المسلح بهدف الانفصال عن تركيا، ودخل من ثم في نزاع مسلح مع الحكومة التركية راح ضحيته حتى الآن آلاف من القتلى الذين يقدرهم بعض المصادر بسبعة وثلاثين ألف قتيل. ولاشك أن الأوضاع التي يمر بها العراق منذ تسعينات القرن الماضي -بعد فرض عديد من القيود على السيادة العراقية عقب إخراج القوات العراقية من الكويت- قد جعلت من منطقة شمال العراق ميداناً مستباحاً للحزب يلجأ إليه هرباً من الضربات الانتقامية للجيش التركي، مع الشك بطبيعة الحال في ألا يكون شمال العراق مجرد منطقة انتشار جغرافي للحزب، وإنما أيضاً قاعدة دعم من إخوانه من أكراد العراق.
ولقد جاء التصعيد الراهن بعد العملية الأخيرة التي قام بها الحزب في الشهر الجاري والتي راح ضحيتها عدد من الجنود الأتراك يقدر بما بين عشرة جنود إلى خمسة عشر جندياً، وما تلا هذه العملية من غليان ساد المزاج التركي، وصولاً إلى موافقة البرلمان على السماح للحكومة بإرسال قوات للعراق لمطاردة المتمردين الأكراد. وفيما عدا قلة من الأصوات في الساحة الدولية فإن غالبية المواقف قد مالت إلى تفهم الدوافع التركية مع الضغط من أجل حل سياسي دبلوماسي كبديل للتصعيد العسكري دون تحديد واضح لماهية هذا الحل، وبعيداً عن هذا كله فإن التطورات السابقة تثير عدداً من الملاحظات الأساسية لعل أهمها ثلاث.
أما الملاحظة الأولى فتتعلق بالنهج التركي لمعالجة المسألة الكردية في تركيا، وهو الأمر الذي لم ينل حظاً يذكر من التعليقات في سياق التصعيد الأخير، وهو نهج مألوف في الخبرات المماثلة يقوم على استخدام القوة العسكرية في حل الصراع مع الانفصاليين الأكراد. ولا ينكر المرء أن القوة قد تكون مطلوبة أو تبدو خياراً حتمياً في بعض مواقف الصراع، لكن سوف يكون من سوء الفطنة والإدراك معاً أن يتخيل أحد أن القوة العسكرية وحدها يمكن أن تحل قضية كهذه. إن الأكراد أمة منقسمة، وقد عانوا كثيراً عبر العقود من أوضاع ظالمة، ووقعوا بدورهم -في سياق معالجة هذه الأوضاع- في أخطاء فادحة، وفي كل الأحوال فإن مشكلتهم لا يمكن أن تحل بالقوة المسلحة. ذلك أن حزب العمال الكردستاني لن يكون له وجود إذا ما فقد تأييد الوسط الكردي الذي يتحرك فيه في تركيا. ولكي يحدث هذا يجب أن تحل مشكلات الأكراد هناك اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً في إطار الجماعة السياسية التركية الواحدة، وإذا لم يحدث هذا فسوف يبقى مطلب الانفصال حلاً مطروحاً من قطاعات كردية كافية لتزويد حزب العمال بمن يقاتل في صفوفه.
ومن الغريب أن أحداً لا يتعظ بخبرة التاريخ، فكل المشكلات المشابهة في جميع بقاع الأرض استعصت على الحل العسكري، ولماذا نذهب بعيداً ومثال جنوب السودان واضح كل الوضوح أمامنا، بل وحالة أكراد العراق أنفسهم في مواجهتهم مع الحكومة المركزية العراقية منذ نهاية خمسينات القرن الماضي، وقد تفاءل المرء بحكم حزب العدالة والتنمية في تركيا على أساس أنه قد يتبنى نهجاً جديداً للمسألة، خاصة وقد كانت هناك مؤشرات تفيد بوجود هذا الاحتمال، غير أن الأمور سارت مرة أخرى للأسف في طريقها المعتاد: تصعيد عسكري دون أفق سياسي، وليكن معلوماً أنه دون هذا الأفق لن تكون هناك نتيجة لهذا التصعيد إلا مزيداً من الخسائر على الجانبين، ومزيداً من التدمير داخل مناطق العمليات، ومزيداً من الضغائن بين أبناء الشعب الواحد، فهل يعي الدرس من يعنيهم الأمر؟
أما الملاحظة الثانية فهي تخص العراق، ولعل الأزمة الراهنة تؤكد للمرة الألف أن الوضع السائد فيه منذ عقد ونصف على الأقل وحتى الآن لا يمكن أن يكون مواتياً لاعتبارات الاستقرار الإقليمي، فالعراق منذ 1991 دولة ناقصة السيادة أو فاقدة لها من الناحية الفعلية: مرة بسبب الحصار الأميركي- البريطاني للعراق والعقوبات الدولية المفروضة عليه بعد غزو الكويت، وثانية بسبب الاحتلال الأميركي، وقد ترتب على هذا فقدان الدولة العراقية لقدرتها على السيطرة على حدودها الأمر الذي سمح بامتداد المشكلة الكردية داخل تركيا إلى شمال العراق، ولعل هذه الأزمة تكشف إلى أي حد بتنا نحتاج إلى استعادة العراق القوي الذي يسيطر على إقليمه، ولا يتركه نقطة انطلاق للإضرار بالآخرين، فلا يخلق من ثم الظروف التي تدعوهم إلى انتهاك حرمة إقليمه بغرض الدفاع عن أنفسهم. ولعل هذا يذكرنا بأننا تأخرنا كثيراً في الضغط بشتى السبل من أجل استعادة العراق سيادته كنقطة بداية لممارسة الدولة العراقية مهامها الطبيعية وأولها وعلى رأسها حماية هذه السيادة.
تكتسب الملاحظة الأخيرة أهمية خاصة بأنها تتعلق بأكراد العراق الذين وقعوا في ارتباك شديد في هذه الأزمة يسمح لنا بأن نتحدث عن الإفلاس البنيوي لتجربتهم في العراق. فقد طالبت كتلة التحالف الكردستاني في البرلمان العراقي القوات الأميركية والعراقية بالدفاع عن إقليم كردستان، وحض مسؤول مكتب العلاقات العربية- الكردية، وعضو كتلة التحالف، الأحزاب والقوى السياسية والعشائر العربية على اتخاذ مواقف حازمة إزاء التهديدات التركية، باعتبار أن ذلك يدخل في عداد المواقف الوطنية كون كردستان "جزءاً لا يتجزأ من البلاد".
الآن إذن وبعد منع رفع العلم العراقي في الإقليم، وعدم السماح بدخول القوات العراقية إليه، والتعاقد المباشر مع شركات أجنبية لاستخراج الثروات النفطية، وفرض قيود على دخول المواطنين العراقيين الإقليم، وغير ذلك من المؤشرات يدرك التحالف الكردستاني أن هناك دولة عراقية يفترض أن لها قوات، ويحمِّلها مع قوى الاحتلال مهام الدفاع عن الإقليم، والآن فقط يتذكر المسؤولون في هذا التحالف أن كردستان "جزء لا يتجزأ من البلاد". غير أن حكومة الإقليم مع ذلك تثابر على النهج الذي لا يعبأ بالدولة العراقية، فهي توجه نداءً إلى الأتراك بضرورة الحوار "في شكل مباشر" لحل المشاكل العالقة، ويقول الناطق باسمها إن الأتراك يتعين عليهم أن يدخلوا في مفاوضات مباشرة مع حكومة الإقليم كونها "صاحبة الشأن"! وسوف تتناول هذه المفاوضات القضايا ذات الاهتمام المشترك "بين البلدين" ومن ضمنها حزب العمال الكردستاني! وتضيف دوائر حكومة إقليم كردستان أنها "تعتبر العلاقات الطيبة مع تركيا إحدى أولوياتها" لافتة إلى أن التجارة مع أنقرة والاستثمار التركي أمران أساسيان لنمو اقتصاد الإقليم الكردستاني!
يريد أكراد العراق إذن الحسنيين: أن يدخلوا في مفاوضات مباشرة مع الحكومة التركية تعزز وضعهم المستقل فعلاً من ناحية، وأن يتركوا من ناحية أخرى مهمة الحماية للدولة التي لا يعترفون بها من الناحية العملية، أو على الأقل يقدمون على سلوكيات كثيرة تتناقض مع ضرورات الاعتراف بها، وهذا منطق مرفوض. ولعل الأزمة الراهنة تقنعهم بأن خيار العراق الموحد الذي يُبنى على أساس المساواة المُطلقة بين كافة مكونات الشعب العراقي هو الخيار الأمثل الذي يقيهم مغبة الأزمة الحالية وغيرها من الأزمات، وأن تأييدهم للاحتلال الأميركي للعراق لن يحميهم من أضرار تصعيد التدخل العسكري التركي إن وقع لا قدر الله. وأن الأفضل لهم وللحكومة العراقية وللعرب جميعاً أن يوحدوا جهودهم في اتجاه تحرير العراق، وإعادة بنائه من جديد كي يكون مظلة آمنة لكل أبنائه، وقادراً على الدفاع عنهم عرباً وأكراداً، وحريصاً في الوقت نفسه على استقرار المنطقة وسلامة دولها.