هذا موضوع مهم وحيوي، بل ومتجدد. لكنه أيضاً موضوع واسع ومتشعب. ولذلك لابد من حصره في مجموعة نقاط ذات صلة باهتمامات الحاضر. أوضح صلة للموضوع بحاضرنا (وهذا له دلالة) هي أن الطبري من الأسماء الحاضرة في حياتنا الفكرية اليوم، في الجامعات والدراسات التاريخية والدينية. كان الطبري يجمع بين مهنة التفسير ومهنة كتابة التاريخ. يقال إنه في كتابة التاريخ كان يعتمد طريقة أهل الحديث. وهذا موضوع آخر. المهم أنه بجمعه بين آلية التفسير، وآلية كتابة التاريخ يكون قد جمع بين العلم والدين. على اعتبار أن المنطق الديني هو الحاكم على كتابة تفسير القرآن، في حين أن المنطق العلمي، أو ما يفترض أنه كذلك، هو الحاكم على كتابة التاريخ. في وقت الطبري كان الجمع بين الاثنين من دون شعور بشيء من التنافر طبيعياً. لا يزال الجمع بينهما من الأمور الطبيعية في حياتنا العربية والإسلامية. وهذه صلة أخرى لموضوعنا بوقتنا الحاضر. لكن ربما أكثر ما يربط هذا الموضوع بوقتنا الحاضر هو عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني. فعمر لا يزال وبعد أكثر من أربعة عشر قرناً على وفاته أحد الرموز الإسلامية الحية في التقى والورع والعدل. والأكثر من ذلك أنه يكاد يكون الأكثر رمزية في الحكم. لا تزال قصة عمر: قصة إسلامه، وحكمه، وقصة استخلافه قبيل وفاته موضوعاً حياً لدى جميع العرب والمسلمين. هذا يعني شيئاً واحداً، هو أن حياة العرب السياسية هذه الأيام تعاني من القفر والفقر في آن واحد. لا يزال العرب يستعيدون من دون ملل قصة الخلافة الراشدة، وخصوصا قصة عمر بن الخطاب بشيء من الحنين الذي لا ينضب، وهو حنين إلى شيء يفتقدونه في حياتهم. كان عمر بن الخطاب حازماً، وقاسياً وكثيراً ما كان مستبداً برأيه، لكنه في الوقت نفسه كان، حسب الروايات التاريخية، مسكوناً بشكل واضح بشعور مكثف بالمسؤلية إلى درجة الفرق. كما كان مسكوناً، وانطلاقاً من الشعور ذاته بهاجس العدل. الروايات التي تومئ إلى ذلك كثيرة. منها ما يرويه الطبري في تاريخه من أنه عندما طعن وحضرته الوفاة "قيل له لو استخلفت"، فأبدى شيئاً من الحيرة تجاه من يختار. فقال له أحدهم "أدلك عليه؟ عبدالله بن عمر" فأجابه عمر قائلاً "قاتلك الله. والله ما أردت الله بهذا. ويحك كيف أستخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته. ولا أرب لنا في أموركم (شؤون حكمكم). ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي. إن كان خيراً فقد أصبنا منه. وإن كان شراً فشرعنا آل عمر بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد، ويسأل عن أمر أمة محمد. أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر إني لسعيد. وأنظر فإن استخلف فقد استخلف من هو خير مني (يقصد أبي بكر)، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني (يقصد النبي محمد ص). ولن يضيع الله أمر دينه." (الطبري، ج4، ص 227-228) بعبارة أخرى، كان ولا يزال عمر بن الخطاب في التاريخ الإسلامي النموذج المثالي لحكم "المستبد العادل". لابد أنك لاحظت في هذا الاستشهاد شعور عمر الكبير بالمسؤولية وهو على فراش الموت. رفض استخلاف ابنه، لأن الخلافة بالنسبة له لم تكن مغنماً أو مطلباً. كانت مسؤولية كبيرة في الدنيا وفي الآخرة. هذا الامتداد بين الدنيا والآخرة، وهذه الصلة بين عمل الدنيا ومآلات هذا العمل في الآخرة، يكشفان مدى تداخل الدين مع شؤون الحكم. وفي جانب واضح منه يوحي بأن الحكم في مرحلة الخلافة الراشدة كان آلية دينية، أو آلية لتحقيق أهداف دينية. والأرجح أن هذا التداخل بين الديني والسياسي هو انعكاس لتداخل الشأن العام بالشأن الخاص في حياة العرب آنذاك. فالحكم هو أمر متعلق بالشأن العام من حيث أن نتائج العمل في الحكم، أو من الزاوية السياسية، تطال آثارها المجتمع كله. في حين أن نتائج العمل الديني مثل العبادة والتقوى، ومن الزاوية الدينية، لا تتجاوز آثارها الشخص ذاته. ومن هنا نجد أن تبرير عمر لعدم استخلافه لابنه يعود إلى خوفه هو شخصياً من نتائج ذلك على مآله في الحياة الآخرة. لم يكن عمر متيقناً كيف كانت خلافته في المقام الأول في ميزان الله يوم الحساب. ليس هناك ما يوحي بأهمية مدى رضا الناس عن الحكم. حسب هذه الرواية كان الخوف من النتيجة التي تنتظره في الآخرة هو الشعور المهيمن على عمر في اللحظات الأخيرة من حياته. ومن هنا قوله "وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر إني لسعيد". كان الخوف صادقاً، وهو ما يسميه بن خلدون بالوازع، وهو هنا وازع ديني أخلاقي، أو وازع داخلي يعتمد على الضمير. ماذا عندما يتراجع مثل هذا الوازع؟ أو يتغير مفهومه؟ لابد أيضاً أنك لاحظت كيف كان عمر بن الخطاب ينظر إلى ابنه عبد الله بن عمر. كان يرى، حسب هذه الرواية، أن ابنه ليس مؤهلاً سياسياً لتولي شؤون الحكم. وهذا هو السبب الأول والأهم في عدم استخلافه حسب الرواية. يقول عمر مخاطبا صاحب الاقتراح: "ويحك كيف أستخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته!". أي أن بن عمر لا يصلح لتولي الحكم، لأنه لم يكن يملك كيف يدير شأن بيته، فكيف به وهو يتولى أمر الحكم، أو الشأن العام. آلية التقييم هنا آلية سياسية بحتة. لم يقل عمر، حسب الرواية مرة أخرى، إنه ليس من حقه أن يورث الحكم لابنه، وإن أمر توليه لهذا الشأن يعود للناس. نحن هنا إذن أمام عدة أمور متداخلة. ورع وتقوى، وشعور مكثف بمسؤولية الحكم، ونفور واضح من استخلاف أحد من آل الخطاب. وفي الوقت نفسه غياب واضح لرأي الناس في أمر خطير مثل الحكم. ربما قيل إننا نتحدث هنا عن أوائل القرن الهجري الأول، وبالتالي لا يجوز إسقاط مرئياتنا السياسية في وقتنا الحاضر على ذلك الوقت. فمسألة الرأي العام، والاستفتاء، مثلاً، وحق الناس في الحكم لم تكن من المفاهيم أو القضايا المتداولة آنذاك. وهذا صحيح، لكن مع ملاحظة أن رأي الناس آنذاك كان متطلباً دينياً أكثر منه متطلباً سياسياً. هناك مسألة البيعة، وهي أمر اختياري. الروايات التاريخية لقصة الشورى، كما أمر بها عمر، انتهت إلى انقسام الصحابة، ومعهم مجتمع المدينة آنذاك، بين عثمان بن عفان وعلى بن أبي طالب. وتم اختيار عثمان، ثم بيعته في المسجد، بناءً على معيار ديني يحظى بقبول شعبي واسع. وقد حصل الخروج على عثمان، ثم قتله في الفتنة الكبرى، عندما رأى الثوار أنه خرج على ذلك المعيار، أو "سنة الله ورسوله وطريقة الشيخين". في السياق نفسه يروي الطبري القصة التالية ضمن حديثه عن سير عمر. يقول: "عن سلمان (الفارسي) أن عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة. فاستعبر عمر" (نفسه، ص211). واضح أن عمر هنا كان يدرك الفرق بين الملك وبين الخلافة. وواضح أيضاً أنه كان خائف من أن يكون قد انزلق في حكمه نحو الملك وابتعد بالقدر نفسه عن منهج الخلافة. ما هو الفرق بين الاثنين؟ حسب هذه الرواية يتمثل الفرق في كيفية تعامل ولي الأمر مع مال المسلمين. هذا المال هو مال المسلمين لأنه مأخوذ منهم على شكل جباية، أو ضرائب. وبما هو كذلك، يجب أن لا يصرف أو يوضع في غير حقه. والمقصود بغير حقه في هذه الرواية، أن لا يأخذ ولي الأمر من بيت مال المسلمين، ولا يعطي منه إلا كلا حسب حقه. لاحظ أنه لم يستخدم "كلمة نصيبه"، بل كلمة "حقه". والحق في هذه الحالة مقرر حسب ما جاء في القرآن والسنة. عدم الالتزام بذلك يجعل من ولي الأمر ملكاً وليس خليفة للمسلمين. عندما قال سلمان ذلك، يقول الطبري، إن عمر "استعبر"، أي بكى من شدة الخوف. هذا رغم أنه، وكما قال في الاستشهاد السابق، "قد حرم أهله". وللحديث بقية.