الفاسي: إنجازات الجيل الثالث وتحديات الصعود!
للحياة السياسية في المغرب سمت "ديمقراطي" يميزها عن أكثر التجارب في باقي الدول العربية، لكن لها أيضاً تحدياتها التي قد تتطلب رؤى وبرامج لم تدخل مختبرات العهود الحكومية السابقة في المغرب نفسه! وربما يأتي هذا الإدراك ضمن حزمة الدوافع وراء المشاورات الأولية لرئيس الحكومة المكلف عباس الفاسي مع زعماء الأغلبية الحكومية المنتهية ولايتها، تمهيداً لتشكيل الحكومة المقبلة. وقد انصبت المشاورات المذكورة، خلال الأيام الثلاثة الماضية، على طبيعة الحكومة المنتظرة، والخطوط العريضة للبرنامج الذي ستتشكل على أساسه، وفحوى التوجيهات الملكية فيما يتعلق بذلك البرنامج وأولوياته.
وكان العاهل المغربي الملك محمد السادس قد استدعى يوم الأربعاء الماضي، عباس الفاسي وكلفه بتشكيل حكومة جديدة، وذلك على ضوء نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة. ولم يكن القرار الملكي مفاجئاً، باعتبار أن ثمة توجهاً نحو تكليف شخصية حزبية هذه المرة، وأن "حزب الاستقلال" الذي يترأسه الفاسي أحرز المرتبة الأولى في الانتخابات، وأن الفاسي نفسه سياسي مخضرم وصاحب خبرة طويلة في مجال العمل العام.
ولد عباس عبد المجيد الفاسي عام 1940 بمدينة "بركان" في الشرق، وانتقل منها مع أسرته إلى مدينة القنيطرة ثم مدينة طنجة حيث تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي، وتابع دراسة الحقوق بجامعة محمد الخامس في الرباط، وكان ناشطاً طلابياً، فانتخب عام 1961 رئيساً للاتحاد العام لطلبة المغرب.
وبعد تخرجه في الجامعة عام 1963، أصبح الفاسي محامياً بمحاكم الرباط، وناشطاً مهنيا في عدة هيئات، ليصبح بعد ثماني سنوات كاتباً عاماً للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، ثم نقيباً لهيئة المحامين بالرباط عام 1975.
وانتخب الفاسي عضواً في مجلس النواب المغربي عام 1984 نائباً عن دائرة العرائش في الشمال، ثم انتخب عن الدائرة نفسها عام 2002، وأعيد انتخابه عنها أيضاً للمرة الثالثة في اقتراع يوم السابع من الشهر الجاري.
وإلى ذلك تقلد الفاسي عدة حقائب وزارية؛ مثل حقيبة الإسكان وإعداد التراب الوطني بين عامي 1977 و1981، وحقيبة الصناعة التقليدية والشؤون الاجتماعية من 1981 إلى 1985. وعينه الملك محمد السادس عام 2000، وزيراً للتشغيل والتكوين والتنمية الاجتماعية في حكومة التناوب برئاسة عبدالرحمن اليوسفي، ثم عينه عام 2002 وزير دولة بلا وزارة في حكومة إدريس جطو.
وتولى الفاسي أيضاً مهمات دبلوماسية عديدة، فابتداء من أكتوبر 1985 أصبح سفيراً للمغرب في تونس، وممثلها الدائم لدى جامعة الدول العربية، ثم مندوبها في أمانة اتحاد المغرب العربي، إلى أن عين في يوليو 1990 سفيراً لدى باريس أثناء الأزمة التي أثارها كتاب "صديقنا الملك" لجيل بيرو، حيث تمت قراءة ذلك التعيين بوصفه رسالة شديدة اللهجة من الملك الحسن الثاني إلى الرئيس فرانسوا ميتران، بدلالة أن عباس الفاسي هو صهر علال الفاسي أحد زعماء الاستقلال وخصوم الحماية الفرنسية.
ولا ينفصل المشوار السياسي والنقابي لعباس الفاسي، عن مسار ارتقائه داخل "حزب الاستقلال"، التشكيل السياسي العتيق الذي تأسس عام 1944 في خضم المطالبة بإنهاء الحماية الفرنسية على المغرب، والذي من صلبه خرجت معظم الأحزاب المغربية الحالية، إذ شهد في عام 1959 انشقاقاً انبثق عنه "حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، والذي ستنشق عنه بدوره فيما بعد أحزاب أخرى أهمها "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية". وقد ترأس "حزب الاستقلال" علال الفاسي حتى وفاته عام 1972، ثم خلفه محمد بوستة حتى عام 1998. أما عباس الفاسي فينتمي للجيل الثالث من قادة الحزب، وقد انضم إليه أثناء المرحلة الجامعية، في حياة المؤسس علال الفاسي نفسه، وأصبح عضواً في لجنته التنفيذية عام 1974، وأعيد انتخابه لعضويتها في أعوام 1977 و1982 و1989، وترأس الكتلة البرلمانية للحزب خلال ولايتين تشريعيتين، ثم انتخب بالإجماع، عام 1998، خلفاً لبوستة كي يصبح ثالث رئيس لـ"حزب الاستقلال".
واستمراراً لنهجه في التحالفات الحكومية منذ الستينيات، فقد دخل الحزب برئاسة الفاسي، إلى الحكومة التي كلف الحسن الثاني المعارض الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي بتشكيلها عام 1998. وبعد الانتخابات التشريعية عام 2002، شارك الحزب بسبعة وزراء، ضمنهم الفاسي نفسه، في حكومة ائتلافية ضمت سبعة أحزاب وترأسها التكنوقراطي ورجل الأعمال إدريس جطو. وبين عامي 1998 و2007، عزز "حزب الاستقلال" من تمثيله البرلماني، فصعد من المرتبة الثالثة إلى الأولى، ربما لأنه لم يدافع عن سجل الحكومة الائتلافية وبرامجها، وإنما دافع عن إنجازات وزرائه فيها، وبالتالي لم يحاسبه الناخبون على إخفاقاتها.
أصبح الفاسي إذن رئيس الحكومة رقم 19 في تاريخ المغرب منذ استقلالها عام 1955، وثاني رئيس حكومة من "حزب الاستقلال". وإذا ما فرغ من هيكلة حكومته المنتظرة وتحديد الحقائب الوزارية وطريقة توزيعها على الأحزاب، فستكون أمامه ثلاثة تحديات أساسية؛ أولها إيجاد حلول لملفات لم تفلح في حلها حكومة جطو المنتهية ولايتها، مثل البطالة والغلاء وأزمة الإسكان ونقص الخدمات الصحية والهجرة السرية. أما التحدي الثاني فهو مطلب الإصلاح الدستوري الذي ترفعه قطاعات تدعو لإعادة النظر في تركيبة الجهاز التشريعي، وإعطائه سلطة أكبر في تعيين ومساءلة وإقالة الحكومة، على نحو ما جاء في المذكرة المشتركة التي رفعها إلى الملك الحسن الثاني "حزب الاستقلال" نفسه وشركاؤه في "الكتلة الديمقراطية" عامي 1991 و1996 على التوالي. وأخيراً يتمثل التحدي الثالث في ترسيخ المصالحة مع دعاة الهوية الأمازيغية و"حزب فرنسا" في المغرب، والذين كثيراً ما أخذوا على "حزب الاستقلال" منطلقاته العروبية وخلفيته "الإسلامية"، لاسيما أن الفاسي شخصياً عرف بنزوع عروبي ورثه عن والده عبد المجيد الفاسي، والذي كان قاضياً وواحداً من شعراء المغرب المتميزين.
تلك هي أكثر التحديات التي تمنح الحقل السياسي المغربي ديناميته المميزة، وقدرته الذاتية على تحريك دورة النخبة، وتجديد التشكيلات التاريخية والوطنية والديمقراطية!