"العدل الدولية" والجدار... ماذا بعد؟
في التاسع من يوليو 2004، أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي فتواها حول الآثار القانونية لتشييد جدار من جانب إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك بناء على طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة، فبماذا أفتت المحكمة؟ وما هي الجوانب التي تضمنتها الفتوى لصالح الحق الفلسطيني؟
في كتاب "الجدار العازل الإسرائيلي، فتوى محكمة العدل الدولية"، والذي نعرضه هنا بإيجاز، وهو جماع إسهامات عدد من المحامين والقضاة، نطالع نص الفتوى ودراسات حولها وحول "جدار الكارثة"، أبرزت المخطط الذي يعبر عنه، والكارثة المنتظرة من وراء بقائه، كما وضحت الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية المحتلة، والأسس القانونية التي يمكن الاستناد إليها في محاسبة إسرائيل، وفي السير بأي مفاوضات معها. وهكذا تتحدث الدراسة الأولى في الكتاب (وهي لبيتر لاغركويست) وعنوانها "التنقيب عن فلسطين بعد جدار الفصل الإسرائيلي"، عن الجدار بوصفه محاولة لـ"تسييج السماء الأخيرة"، مع إحالات عميقة إلى الأيديولوجية التي أملته والنتائج المتوخاة منه، دون أي إشارة إلى فتوى محكمة العدل الدولية. أما الدراسة الثانية لكاتبها أنيس مصطفى القاسم، فتتعلق بالأجواء التي أثارتها إسرائيل وأنصارها بعد قرار الإحالة إلى محكمة العدل الدولية، بدعوى أن المحكمة ليست ذات اختصاص في هذا الشأن. ثم تأتي أربع دراسات تدور حول الفتوى تلخيصاً وتحليلاً بما تتضمنه من مقترحات للاستفادة من الفتوى، اثنتان منها لمحاميين شاركا في تمثيل فلسطين أمام المحكمة، وهما الهولندي "بيتر بيكر" والفلسطيني أنيس فوزي قاسم. بعد ذلك نطالع النص الكامل للفتوى في ترجمتها العربية المعتمدة، ثم الآراء الشخصية لعدد من قضاة المحكمة، وهي ذات أهمية كبيرة شأنها شأن الفتوى ذاتها تقريباً. وتزداد أهمية الكتاب لاشتماله على ملاحق من ملفات الأمم المتحدة، ضمنها حافظة مستندات تضم الوثائق والقرارات الدولية التي استندت إليها المحكمة، للتأكيد على أن الفتوى قامت على أرضية موضوعية من الوقائع، وليس على مزاعم فلسطينية أو عربية أو فرضيات هشة، كما ادعت إسرائيل، حيث ردت المحكمة بالإشارة إلى ما بحوزتها من مستندات موثوقة المصدر.
وبالعودة إلى الفتوى نجدها تعلن بوضوح أن الجدار "يخالف القانون الدولي"، وأن إسرائيل "ملزمة بإنهاء خروقاتها للقانون الدولي... وبأنْ توقف في الحال أعمال بناء الجدار"، كما أنها "ملزمة بالتعويض عن جميع الأضرار التي نجمت عن بناء الجدار في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وأن "الدول كلها ملزمة بألا تعترف بالوضع اللاشرعي المترتب على بناء الجدار، وملزمة بألا تقدم دعماً أو مساعدة للحفاظ على الوضع الناشئ عن هذا البناء". كذلك "على الأمم المتحدة أن تنظر فيما يتعين اتخاذه من أفعال أخرى لإنهاء الوضع اللاشرعي المترتب على بناء الجدار والنظام المرافق له، آخذة في الحسبان هذه الفتوى".
ذلك ما أفتت به المحكمة حول الجدار بحد ذاته، وحول التزامات إسرائيل والدول الأخرى والأمم المتحدة في هذا الخصوص. وثمة جانب من الفتوى في غاية الأهمية، هو تكييفها القانوني لوضع الأراضي التي احتلت عام 1967، حيث تقدم المحكمة عرضاً لتاريخ القضية الفلسطينية خلصت منه إلى أن تلك الأراضي، بما فيها القدس، تعتبر وفقاً للقانون الدولي أرضاً محتلة، مما يقوض نهائياً الادعاء بأنها "أراض متنازع عليها" وليست محتلة، ويصحح أيضاً "التكييف الخاطئ" الذي ورد في إعلان المبادئ (اتفاقية أوسلو) عام 1993.
الكتاب يوضح باستفاضة أن الجدار -بمساره وخصائصه- هو تنفيذ للفلسفة الصهيونية متمثلة في الاستيلاء تدريجياً وبخطى متلاحقة يمهد بعضها لما يليه، على فلسطين كلها وإخلائها من سكانها الفلسطينيين، لذلك فهو يحصرهم داخل سجن كبير لا يستطيعون مغادرته، يفصلهم تماماً عن العالم الخارجي، فلا يراهم أحد ولا يرون أحداً.
وإلى ذلك يحذر الكِتاب من الحقيقة المرة، وهي أن هذا الجدار إذا ما قدر له البقاء، فسيكون الخطوة الأخيرة نحو تحقيق المخطط الصهيوني، ومن هنا "لا تجوز الاستهانة إطلاقاً بأمر كأمر الجدار"، كما "لا يجوز للأنظمة العربية أن ترغم الفلسطينيين على المساومة فيه بحجة مقتضيات الأمن الإسرائيلي". ونقرأ في الكتاب حسرة مؤلفِيه على أن صناع القرار في الوطن العربي لم يعيروا فتوى محكمة العدل الدولية ما تستحقه من اهتمام، ولم يسعوا بجدية لإلزام إسرائيل والمجتمع الدولي بالامتثال لها، ربما بسبب الظن الشائع بأن الآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدولية ليس لها صفة الإلزام. لكن إذا كان ذلك صحيحاً في بعض الأحيان فهو ليس كذلك في أحيان أخرى، ويعتمد الأمر على طبيعة الفتوى وما أعلنته المحكمة؛ "فإذا كانت الفتوى تأكيداً لما استقر عليه القانون من مبادئ وقواعد وكشفاً لها، وقد دعت المحكمة صراحة إلى التزام الدول بها، فإن الفتوى تكتسب الطبيعة الإلزامية".
وبشكل عام ينتهي الكتاب إلى أن الفتوى فتحت الباب على مصراعيه لمحاسبة إسرائيل على ما ترتكبه من جرائم ضد الإنسانية، تأسيساً على أن الدولة العبرية ملزمة باتفاقية جنيف الرابعة، وانطلاقاً من الالتزامات الواردة في هذه الاتفاقية، وخصوصاً التزام كل دولة طرف فيها بأن تؤمن احترام الأطراف الأخرى لها، وتنفيذاً لقرار الجمعية العامة الذي أهاب بالدول كلها أن تلتزم بما جاء في الفتوى، لذلك أصبح من واجب كل دولة طرف في الاتفاقية أن تقبض على كل من ينتهكها وتقدمه للمحاكمة أمام قضائها...
وهكذا فبعدما أصدرت محكمة لاهاي قرارها النهائي بشأن الجدار ولصالح الحق الفلسطيني، يبقى أن يصدِر النظام العربي الرسمي قراراه الحقيقي أيضاً بهذا الخصوص!
محمد ولد المنى
الكتاب: الجدار العازل الإسرائيلي، فتوى محكمة العدل الدولية
المؤلفون: جماعة
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
تاريخ النشر: 2007