تطرّقنا في المقال السابق إلى "القيم البدوية" كمنظومة أخلاقية تشتمل على الحسن والسيئ، على الإيجابي والسلبي، وبررنا التركيز على الجانب السلبي بأنه لغرض بحثيّ هو إثبات أن هذا الجانب السلبي من القيم البدوية -الذي هو جانب العنف- له ارتباط بما نشهده اليوم من عمليّات عنفيّة وتدميريّة، وتساءلنا في نهاية المقال عن هذه القيم، وهل هي محصورة في البدو دون الحضر أم أنها قيمٌ مشتركةٌ بين الطرفين؟ ثم ما هي علاقة الإسلام بهذه القيم؟ وماهو تأثير هذه القيم على المسيحية؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات، نؤكّد أننا لا نعني بإضافة القيم البدوية للبدو قصرها عليهم دون الحضر، بل هي قيم منتشرة لدى البادية والحاضرة، تكثر هناك وتتواجد هنا بمستويات متفاوتة، ذلك أن "البدو أصل للمدن والحضر، وسابق عليهما" كما أن "خشونة البداوة قبل رقة الحضارة"، ولا أدل على ذلك من "أننا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أوليةً أكثرهم من أهل البدو"، هكذا يختصر ابن خلدون لنا المقدمة التي نريد التأكيد عليها، ثم يصل أخيراً لما نريده تحديداً بقوله: "إن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وإنها أصل لها"، وذلك حسب ما جاء في كتابه "المقدّمة" صـ122، وما بين الأقواس كلامه بنصّه. وفي هذا السياق يؤكد الدكتور علي جواد "أن حالة استمرار قيم ومفاهيم البداوة في المجتمعات الحضرية حالة قديمة، ولا تبتعد كثيراً عمّا هو موجود لدينا، إن حالة هؤلاء الناس وإن تحضّروا واستقروا وأقاموا، وتركوا الحياة الأعرابية، إلا أنهم بقوا رغم ذلك على مذهب أهل الوبر ودينهم في التمسك بالانتساب إلى الجد الأعلى وإلى أحياء وبطون وفي إجابة النخوة العصبية، وما شابه ذلك من سجايا البداوة"، وذلك في كتابه المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام 4/314، وقارن بكتاب البدو 1/12. كما يعيد علي الوردي التأكيد على نفس المسألة في كتابه أسطورة الأدب الرفيع صـ102 بقوله: إن "من مشاكل المجتمع العربي بوجه عام أنه ذو شخصية مزدوجة، فهو حضري وبدوي في آن واحد، ومرد ذلك إلى متاخمته للصحراء واتصاله بها، فالبادية إذن تمده بالقيم البدوية جيلاً بعد جيل". ولهذا فإن "الجانب القيمي أو الفكري للبداوة، أي القيم والعادات والتقاليد والأعراف وغيرها من الموروثات الشعبية، من المؤكد أن تأثيرات ذلك الجانب القيمي قد جاوزت حدّ القطاع البدوي، وخصوصاً بالنسبة للمجتمعات العشائرية التي كانت البداوة هي النمط الوحيد السائد فيها لأجيال بشرية أو بدوية كثيرة" كما يكرّر الوردي في كتابه علم الاجتماع البدوي صـ340. بل إن مما يزيد الأمر حدّة أنني أتمنّى- مع علي الوردي- أنني "لا أغالي إذا قلت: إن مجتمعنا الراهن هو من أكثر المجتمعات في العالم تأثراً بالقيم البدوية في محاسنها ومساوئها، ولعل المساوئ البدوية أوضح أثراً فيه من المحاسن"، وذلك في كتابه منطق ابن خلدون صـ158. وبعد كل هذه النقول وهذا التأكيد، فإن باحثاً أكاديمياً سعودياً لم يجد بدّاً بعد بحثه المتخصص في المجتمع السعودي من أن يقول: "إنه قد توجد القيم البدوية في الأحياء الحضرية، ولها السلطان على السلوك في المدن، خاصة بعد أن استقرت العشائر ومضت أعوام على أخذها بأساليب حياة المدينة"، وهو الدكتور محمد إبراهيم السيف في كتابه المدخل إلى دراسة المجتمع السعودي صـ247. يتضح مما تقدّم أن القيم البدوية التي نتحدث عنها ليست خاصًّةً بالبدوّ ولكنها قيم مشتركة بين البدو والحضر على حدٍّ سواء، لنأتي على السؤال الثاني الذي يقول: ما هو موقف الإسلام من القيم البدويّة؟ لقد كان موقف الإسلام شديد الوضوح في إلغاء القيم البدوية والتعصب القبلي وتحويل الولاء للمجموع والأمة والدولة، وذلك في نصوص شرعية كثيرة ومتظافرة تتحدث حيناً عن الأعراب وأحياناً عن الجاهلية، وكلها تدفع باتجاه إلغاء تلك القيم وإحلال قيم الإسلام مكانها، فالله تعالى جعل كل رسله من أهل القرى "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى.." (يوسف:109)، ولهذا فقد كان موقف الإسلام من الأعراب المتشبعين- بحكم بيئتهم الجغرافية ومجتمعهم القبلي- بالقيم البدوية، موقفاً صارماً "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا.." (الحجرات:14)، ويعيد التأكيد على أن "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً.." (التوبة:97)، ويحدثنا الباري جلّ وعلا عن الحمية القبلية "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية" (الفتح:26). وهو ذات موقف النبي صلى الله وسلّم في حديث جابر بن عبدالله في البخاري "كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟" وقد "شهد المجتمع العربي نوعاً من صراع القيم إبان ظهور الإسلام فيه، فقد شجب الإسلام كثيراً من القيم البدوية كالعصبية والثأر والغزو والقتل بغير حق، وظل المجتمع العربي يعاني الصراع بين قيم الإسلام وقيم البداوة زمناً طويلاً"، كما يقول الوردي في كتابه منطق ابن خلدون صـ259. ولكن القيم البدوية عادت مع بني أمية لأنهم "كانوا أولي نزعة بدوية صريحة، فكانوا لا يبالون بما يقول الفقهاء وأهل الدين، جل اهتمامهم كان منصرفاً إلى تدعيم ملكهم بحدّ السيف على الطريقة البدوية القديمة" كما أشار علي الوردي في كتابه وعّاظ السلاطين صـ36. وقارن بما ذكره أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام صـ78-83. وهذا ما يؤكّده المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري بقوله: إنّه "برغم أن التعاليم الإسلامية قد دعت إلى تجاوز الروابط القبلية وعصبياتها، فإن الاعتبارات العملية في واقع الدولة الإسلامية اقتضت أن تختص قريش وفروعها بالقيادة والسلطة على صعيد الحكم والمعارضة على حد سواء، وأن يتم توزيع عطاء بيت المال على أساس درجات القرابة السلالية"، وذلك في كتابه التأزم السياسي لدى العرب صـ87، وما تقدّم دليلٌ على تغلغل القيم البدوية وقوتها، بحيث استطاعت إقصاء القيم الإسلامية في عهد قريب من لحظة الوحي. وقد فعلت القيم البدوية ذلك مع أديان أخرى غير الإسلام، كالمسيحية التي كان لبّ مفهومها التسامح والصفح، ومن العبارات المسيحية الشهيرة في هذا السياق ما ورد في الإنجيل منسوباً لعيسى عليه السلام من قوله: "أنا أقول لكم: لا تنتقموا من الذي يسيء إليكم، بل من ضربك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر، ومن أراد أن يشتكيك ليأخذ قميصك فاترك له ثوبك أيضاً" الإنجيل صـ5. غير أن ذلك لم يجد نفعاً أمام سطوة قيم البداوة، فكما يذكر الباحث العراقي هادي العلوي "فالمسيحية الشرقية التي اعتنقتها بعض القبائل ومنها قبائل كبيرة مثل تغلب، لم تستطع أن تخلق من البدوي مسيحياً بسيطاً من الغرار الذي عرفناه مثلاً في الحيرة، يقول الشاعر- لاحظ وجود الشعر- المسيحي جابر بن حني التغلبي رداً على استخفاف صدر من قبيلة بهراء تجاه قبيلته: وقد زعمت بهراء أن رماحنا: رماح نصارى لا تخوض إلى الدم نعاطي الملوك السلم ماقسطوا لنا: وليس علينا قتلهم بمحرّم"، كتاب الاغتيال السياسي في الإسلام صـ56، وقصيدة جابر بن حني كاملة في المفضليّات صـ211. كان هذا المقال في الحديث عن وجود القيم البدوية لدى البدو والحضر على السواء، وكذلك عن علاقة القيم البدوية بالأديان، وسيكون علينا الإجابة في المقال القادم عن سؤال ما هي علاقة القيم البدوية بالوطنيّة؟. يتبع.