فقه البعوضة
البعوضة، ضرب الله بها مثلاً للإعجاز في خلقه: "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها..." واكتشف من خلالها الأطباء حكمة الدواء في أحد جناحيها، واتخذها الأميركان وسيلة فعالة في محاربة الإرهاب في أفغانستان عندما صنعوا أجهزة حساسة من شكلها تخادع العدو وتدخل إلى مكامن الكهوف في الجبال من دون أن يشعر أو يستغرب من وجودها أحد. واخترع العلماء من خلال تقنية عينها، عيوناً حقيقية للكاميرات التي تستخدم في أجهزة الرادار وغير ذلك من الاكتشافات التي اعتمدت في جوهرها على جنس البعوضة.
أما أهل التطرف والتزمت والتشدد من المسلمين على مدار التاريخ الإسلامي، فإنهم ركزوا اختراعاتهم واكتشافاتهم الفريدة في البحث عن مزيد من سبل التضييق على أنفسهم أولاً ومن ثم تطبيق وإلزام الآخرين من الأتباع الذين يمارسون نظريات "الإمعة" بكل حرفية ودقة لا متناهية في إنتاج المزيد من التصرفات الفردية الشاذة، متخذين من فقه البعوضة ذريعة قوية لتلك الممارسات التي جعلت قمة التقوى في تجنب قتل البعوضة وقتل الناس جميعاً من أجل عيونها التي لا ترى إلا بمسبار هابل.
والذي حذر الأمة من هذا الانحدار في تفسير قضايا الشريعة الجزئية وفق فقه البعوضة حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنه، عندما سأله مجموعة من الحجاج عن حكم قتل البعوض في الحرم المكي ومدى تأثيره على الحج الذي ضربوا من أجله أكباد الإبل، فأجابهم مستغرباً من هذا السؤال الذي ينم عن فقه أعوج وفهم أعرج يعشعش في أذهان هؤلاء، فقال بما في معناه، قتلتم سِبط رسول الله ولم تسألوا عن حكم الإسلام فيه، وجئتم للسؤال عن قتل بعوضة، قلّ ما تفقهون!!!
ومنذ ذلك اليوم وصل امتداد فقه البعوضة إلى كثير من مجريات الأمور التي ألصقت بالإسلام وفق ذلك الفهم القاصر.
وغرق الخوارج في تأصيل مبدأ فقه البعوضة فخاضوا قتالاً ضد معارضيهم إلى درجة أنهم بقروا بطون النساء الحوامل ورموا بالأجنة في مياه النهر، وهم الذين وصفوا بالقوامين بالليل والصوامين بالنهار، أو بالمعنى الدارج رهبان بالليل وفرسان في قتل المسلمين بالنهار.
فقههم في العبادة كان مناقضاً إلى أقصى اليسار المتطرف في ارتكابهم لفظائع لم ترتكبها يد المغول في بغداد.
وتوالى هذا الفهم الفقهي السقيم حتى وصل إلى دولة الأندلس التي قامت في فتراتها الأخيرة بمطاردة ابن حزم وحرق كتبه بعد صدور الفتاوى الحارقة لمؤلفاته من علماء السلاطين، وأشنع من ذلك هو صدور فتوى بحرق صاحب مؤلف "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" لابن المقرّي التلمساني وهو قابع في سجنه.
وتواصل البعوضة في نشر سمومها وقد حلت في باطن عقول "طالبان" في أفغانستان حيث نفثت فيهم كره كل ما يمت إلى الحضارة الإنسانية فهدمت صروحها وجلدت النساء والرجال بسبب النقاب وحلق اللحية وحركة الإصبع السبابة التي كانت تكسر لأصحابها في المساجد أثناء أداء الصلوات وخاض العالم حرباً شعواء ضدها لا زالت تزيل آثار تلك الحقبة من التاريخ المعاصر.
ولكن البعوضة لم تجد من يقتلها منذ ابن عباس وصولاً إلى مجزرة "المسجد الأحمر" التي أدارتها فئة مؤيدة وبقوة لفقه البعوضة وطريقتها في إدارة الأزمات باسم التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية والإ فإن كل من في المسجد مستعد لتلقي أبرة التخدير من البعوضة التي آثرت القبول لتلقي سمومها باسم الشهادة والجهاد الأكبر من أجلها كُرِّم "المسجد الأحمر" ولم يفرح بذلك أكثر من البعوضة التي أهلكت الحرث والنسل.