البيولوجيا التركيبية... علم جديد يحلم باكتشاف سر الحياة!
انسوا علم الهندسة الوراثية، فقد ظهرت فكرة جديدة باتت رائجة هذه الأيام يشار إليها باسم "البيولوجيا التركيبية"، ويسعى بموجبها المهندسون إلى إعادة وصل الآلة الوراثية للكائنات الحية على أسس مختلفة بهدف الحصول على نتائج غير مسبوقة وكائنات جديدة. وإذا كانت تطلعات العلماء فيما مضى، ترتكز على علم الهندسة الوراثية التقليدي، بإدخال مورثة أو مورثتين في جسم بكتيري أو نبتة زراعية، فإن علماء البيولوجيا التركيبية يسعون إلى التدخل في تركيب المورثات وإعادة ترتيبها على نطاق واسع يصل إلى مستوى الجينوم، بل حتى التدخل في مجمل الشفرة الوراثية لكائن معين. وتندرج ضمن خططهم أيضاً تحوير الميكروبات لاستخراج نفط رخيص من مخلفات النباتات، وفي مرحلة متقدمة التمكن من إنتاج كائنات حية انطلاقاً من لاشيء.
ويستطيع علماء البيولوجيا التركيبية التعرف على شبكة من المورثات المفيدة عبر شاشات الكمبيوتر، وذلك من خلال تحميل متوالية من المورثات يمكن الحصول عليها من بنك للمعلومات خاصٍ بالحمض النووي. غير أن جزئيات الحمض النووي التي تحتوي على المورثات المختلفة، فضلاً عن عناصر التحكم فيها، ستمتد عبر سلسلة يتجاوز طولها مئات الآلاف من وحدات الحمض النووي. ومع أن الخلايا البشرية تقوم باستنساخ مُورِّثٍ يحتوي على ثلاثة مليارات وحدة، فإن أطول قطعة من الحمض النووي التي استطاع العلماء تركيبها، لا تتجاوز 35 ألف وحدة. ويأمل العلماء في معهد الدكتور "جريج فيتير" بمدينة روكفيل الأميركية، في الإقدام على خطوة عملاقة في مجال البيولوجيا التركيبية من خلال تصنيع قطعة من الحمض النووي يصل طولها إلى 580,076 وحدة، وذلك بالاعتماد على مواد كيماوية بسيطة تُستمَدّ أساساً من الحروف الأربعة الأولى لمتوالية التركيب الكيماوي للحمض النووي. وستكون النتيجة هي الحصول على نسخة مطابقة للجينوم سيقوم الدكتور "فيتير" بوضعها داخل خلية بكتيرية. وإذا ما تبنى هذا الجينوم المصنع بشرياً وظائف الخلية وقام بها من دون مشاكل، فإن الدكتور "فيتير" يكون قد نجح في تركيب أول خلية بشرية.
ورغم أن هذا الإنجاز يؤشر إلى المستوى الجديد الذي بلغه العلم في التحكم بالحياة البشرية والسيطرة على مسيرة تطورها، يبقى نجاح الدكتور "فيتير" في تركيب الجينوم مجرد استنساخ لبرنامج حياة موجود سلفاً، وليس خلقاً جديداً للحياة. ويبدو أن علماء البيولوجيا الحيوية، وهم يحاولون مسح المورثات والتحكم في عناصرها من خلال جمع حمضها النووي في بنوك للمعلومات، يشعرون بأنهم على وشك الكشف عن سر الحياة المكنون. وفي هذا الإطار يقول "توماس نايت"، من مختبر علوم الحاسب الآلي والذكاء الاصطناعي في مقال يصف فيه تخصص الهندسة الجديد، "إن البيولوجيا لن تصبح أبداً ما كانت عليه في السابق". وقد عقد رواد العلم الجديد مؤتمرهم الثالث خلال الشهر الماضي بسويسرا، لكن اكتشافاتهم لم تزل بعد في أطوارها الأولى. فلم تتخط الإنجازات مرحلة تركيب بعض المورثات وإنتاج عقاقير بدائية لما يمكن أن يتحول مستقبلاً إلى علاج لبعض الأمراض. ويعبر عن هذا الوضع "جيمس كولينز"، مهندس في البيولوجيا الطبية بجامعة بوسطن قائلاً "مايزال فهمنا للشبكات الداخلية للخلايا في مهده، وسيظل تحدياً أمامنا لعقود قادمة".
لكن التحديات لم توقِف علماء البيولوجيا التركيبية عن مواصلة أحلامهم مهما بلغت درجة طموحها التي تقارب أحياناً الخيال. فقد وضعت مجموعة البيولوجيا التركيبية بمعهد "ماساشوستس" للتكنولوجيا على سلم أولوياتها، "تصنيع منزل بيولوجي"، بمعنى أنه يمكن إعادة برمجة حبة بلوط لإنتاج جدران، وأرضية خشبية وسقف، بدل العناصر المألوفة لشجرة. ويذكر أن معظم الأشخاص الذين يعملون اليوم في البيولوجيا التركيبية جاءوا من تخصص الهندسة وتوجهوا إلى علم البيولوجيا، لذا اصطحبوا معهم مجموعة من المصطلحات المرتبطة بالدوائر والبرمجيات التي يسعون إلى تطبيقها في المجال الحيوي. ورغم التحديات الكبيرة التي تعترض طريق البيولوجيا التركيبية، إلا أن تطبيقاتها العملية قد لا تتأخر في الظهور، لاسيما في مجال الطاقة. فبسبب أسعار الغاز والنفط المرتفعة، يعكف العلماء على إعادة هندسة ميكروبات معينة لإنتاج عناصر تدخل في تركيب الغاز والبترول.
ويدرك علماء البيولوجيا التركيبية بأن مجال تخصصهم، شأنه في ذلك شأن أي علم جديد، ينطوي على وجهين أحدهما للخير والثاني للشر، لذا سعى العلماء إلى فتح حوار خلال مؤتمرهم السنوي في دورته الثالثة لمناقشة الأخطار المحتملة للبيولوجيا التركيبية. ويمثل الإرهاب البيولوجي أحد تلك الأخطار التي يتخوف منها بعضهم، فحسب تقرير نشرته دورية "ساينس" تلقت شركة "بلو هيرون" للتكنولوجيا الحيوية طلبات لتصنيع حمض نووي خاص لنبتة سامة ولفيروس الجدري، لكن الشركة رفضتها على الفور. ويأمل علماء البيولوجيا الحيوية أن يؤدي التنظيم الذاتي، لمجالهم إلى إبعاد التدخل الحكومي، لاسيما وأن العلم قابل للتوظيف في أمور مضرة. أما الخطر الآخر المحتمل فيأتي من الطبيعة التي تعمل على تطوير الكائنات من خلال تحويرات تطرأ على الحمض النووي. هذا الميل الموجود في الطبيعة للتدخل وتحوير الكائنات، غير مرغوب فيه من قبل علماء البيولوجيا التركيبية الذين يريدون استقراراً في الحمض النووي. ومع ذلك يتطلع العلماء إلى التعرف على التغيرات قبل وقوعها والتدخل لمنعها من خلال الرجوع إلى حالة الخلية الأولى.
كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"