من أسخف ما سمعت في أحد المنتديات الفكرية التي حضرتها مؤخراً، مقولةً تفَوّهَ بها أحد المشاركين على نحو حاسم يحسد عليه، مؤداها أن الفكر القومي العربي هو سبب كل المصائب التي حلت بالأمة. تأملت في الجرأة التي يَقدِم بها بعضهم على إبداء أحكام مطلقة في موضوعات بالغة التشابك والتعقيد. حاولت أن أفهم أسباب ما يقوله صاحبنا – فهو حتى لم يُعنَ بإقامة الحجج المساندة لمقولته- فوجدت أن سياق الحديث يشير إلى "شمولية" هذا الفكر, ومن ثم شمولية ما تأسس عليه من نظم للحكم عصفت بحقوق مواطنيها, وحكمتهم بالحديد والنار, وأقدمت على ممارسات شديدة السوء في علاقتها الخارجية! رحت أتأمل في هذا المنطق وأحاول ترتيب أفكاري. كيف يمكن للفكر أن يكون سبباً في مصيبة؟ لابد أن ذلك يحدث عندما يفضي إلى ممارسات تقود بدورها إلى تلك المصيبة. وحاولت أن أطبق هذه الإجابة المبسطة على الفكر القومي العربي، علّنا نتوصل إلى مساهمته في المصائب العربية! لابد أولاً أن نذكّر صاحبنا باستحالة الحديث عن فكر قومي عربي في سلة واحدة، فهناك مدارس واتجاهات تدفعنا على الأقل إلى التريث عندما نطلق أحكاماً عامةً على ما يسمى "الفكر القومي العربي"، وكأن هناك كياناً نظرياً متماسكاً من الأفكار معروفاً للكافة تطلق عليه هذه التسمية. ومع ذلك لنفترض أننا نريد أن نختزل كل هذه المدارس والاتجاهات في خطوط عامة تجمع بينها جميعاً. في هذه الحالة يمكننا أن نقول إن جوهر هذا الفكر هو الإيمان بالجامع العربي الناجم عن وجود أمة عربية واحدة يجب أن تترجم العلاقة بين أبنائها إلى حالة وحدوية. فهل يحسب على الفكر القومي إيمان نظام حكم شمولي أو أكثر به واتباع هذا النظام وسائل فاسدة في محاولته تحقيق هذه الحالة الوحدوية أو زعمه ذلك؟! قد يقال إن الفكر القومي العربي مدانٌ لأن الديمقراطية لم تكن ركناً أصيلاً من أركانه، وهو قول صحيح جزئياً. هو صحيح لأن الآباء الأوائل لهذا الفكر، وقد آمنوا بالأمة العربية ورفضوا حالة التجزئة التي تعيشها، ركزوا من دون شك على هدف تحقيق الوحدة وأساليبه، غير أن هذا لا يعني بالضرورة أن العداء للديمقراطية أو غيابها كان ركناً أصيلاً في الفكر القومي العربي، بالإضافة إلى أن جيلاً بأكمله من المفكرين العرب قد آمن بعد هزيمة يونيو 1967 بأن غياب الديمقراطية عن ممارسات النظم العربية كان سبباً أصيلاً من أسباب الهزيمة، إن لم يكن السبب الأساسي، وعليه فقد أصبحت الديمقراطية لديهم عنصراً ضرورياً من عناصر المشروع النهضوي العربي، غير أن شيئاً لم يتغير في واقع "النظم القومية" العربية بما يشير إلى أن العيب لا يكمن في الفكر وإنما في أشياء أخرى. لا يقل عما سبق أهميةً، إن غياب الديمقراطية لم يكن من نصيب "النظم القومية العربية" وحدها، لكن الظاهرة كانت – وما تزال- ممتدة بطول الوطن العربي وعرضه، بما يشير إلى أن معضلة الديمقراطية في هذا الوطن تتجاوز مسألة الفكر القومي العربي بكثير، بل إن هذا الفكر قد يحسب له أنه صاحب مشروع تحرري وحدوي، فيما غيره من الأفكار لم يكن يصب سوى في خانة السلطة في حد ذاتها والتبعية للخارج. هل يكون السبب في اتهام الفكر القومي العربي بالمسؤولية عن كل مصائب العرب، إن ممارسات النظم التي استندت إليه –أو ادعت ذلك- قد أفضت إلى حالة من الصراع داخل النظام العربي؟ لن يصعب على أي متابع للتاريخ العربي المعاصر أن يكتشف أن ظاهرة الصراعات العربية-العربية قد سبقت حركة المد القومي بكثير، وامتدت بعدها وصولاً إلى لحظتنا هذه، ومرة أخرى فالصراع المرتبط بحركة المد القومي العربي في الفترة بين منتصف خمسينيات القرن الماضي ومنتصف ستينياته، كان صراعاً بين مشروع للتحرر القومي والوحدة العربية وخصوم هذا المشروع، وهو صراع حقق فيه المشروع القومي العربي عدداً من أهدافه، أما الصراعات التي شهدها النظام العربي بعد انتكاسة تلك الحركة وحتى الآن فهي صراعات استنزافية عجزت عن تحقيق أية وظيفة إيجابية أو الوفاء بأية استراتيجية. هل يكون السبب في الاتهام هو فجوةٌ أحدثها الفكر القومي بين العروبة والإسلام؟ ينطبق على الإجابة عن هذا السؤال ما انطبق على مسألة الديمقراطية، فمن البديهي أن الفكر القومي العربي لم يهتم في مراحله الأولى ببيان العلاقة مع الإسلام، لأن شاغله الأول كان هو الرابطة التي تجمع بين العرب من كل الأديان. من ناحية أخرى فالملابسات السياسية في النصف الثاني من القرن العشرين، قد أفضت إلى صدام سياسي مروع بين نظام ثورة يوليو 1952 وحركة "الإخوان المسلمين" في مصر، وهو صدام استمر طيلة مرحلة المد القومي تقريباً، الأمر الذي بدا معه وكأن العروبة والإسلام على طرفي نقيض، لكن الصدام كان "سياسياً" بامتياز، فلا يمكن اتهام ممارسات ثورة يوليو بالعلمانية، وكذلك لا يمكن اتهام حركة "الإخوان المسلمين"، في منابعها الأصيلة، بالعداء للعروبة. لكن الأهم من ذلك كله، أن الجيل الراهن من المفكرين المؤمنين بالعروبة لا يرى تناقضاً بين العروبة والإسلام، وهو يحاول التأصيل لهذه الرؤية. ناهيك عما يحاوله الممارسون من بناء جسور الحركة المشتركة بين أصحاب الأطر المرجعية القومية ونظرائهم من أنصار المرجعية الدينية في معسكر الإسلام السياسي. ماذا يمكن إذن أن تكون دوافع عريضة الاتهام التي تحاول الإمساك بتلابيب الفكر القومي العربي؟ إن تحليل السياق الذي وردت فيه مقولة تحميل الفكر القومي المسؤولية الكاملة عن مصائب العرب، يشير إلى أن النتيجة العملية لهذه المقولة سوف تكون محصورة نظرياً بين الاكتفاء بالحالة "القطْرية" أو "الوطنية"، وبين تمزيق الدول العربية بين روابط مشبوهة تبنى على أسس جغرافية (كالرابطة الشرق أوسطية على سبيل المثال), فيما مقومات الهوية مكتملة في الرابطة العربية, أو التردي مباشرة في مستنقع التبعية لدول عظمى وكبرى. والواقع أن مآل هذه السيناريوهات الثلاثة يصب أخيراً في السيناريو الثالث؛ فالحالة "القطْرية" أو "الوطنية"، عاجزة عن الصمود أمام قوى الهيمنة، والروابط اللاعروبية هي أصلاً بعض من محاولات تلك القوى فرض إرادتها على المنطقة. والغريب أن تأتي مقولات الانسلاخ من الرابطة العربية في توقيت تبحث فيه من ناحية كل دولة من دول العالم عن جامع يربطها بدول أخرى كي تكون كافة أقدر على مواجهة التحديات الراهنة المتعاظمة، وتتفاقم فيه من ناحية أخرى جسامة التحديات التي تواجه الأمة وتعصف بأمنها وازدهارها بل وبأسباب بقائها ذاته. ليس في الكلمات السابقة بأي حال، أدنى دفاع عن نظم استبدت بشعوبها وهددت جيرانها في إطار مرجعية قومية مزعومة، وإنما هو جهد للتنبيه إلى ما يراد بالأمة من باب آخر غير باب الاحتلال العسكري والحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية... والتي يبدو أن قوى الهيمنة الدولية جربتها من دون جدوى، فالمقولة التي عنيت السطور السابقة بمحاولة دحضها أخطر من كل هذه المخاطر والتهديدات, لأنها تضرب العصب الحساس للأمة –أي هويتها- في الصميم، فإن أصابت الضربة هدفها، لا قدر الله، حسمت المعركة على نحو نهائي لصالح قوى الهيمنة، وإن خابت، بفضل الله وإرادة المؤمنين بهذه الأمة المدافعين عن استقلالها وازدهارها وبقائها، أمكن لها أن تصمد وأن تقاوم، على الرغم من كل ما حل بها من نكبات.