قاد انهيار النظم الاشتراكية إلى انهيار اليسار في أغلب البلاد النامية، ومنها سوريا، حيث أدى سقوط الاتحاد السوفييتي إلى نتائج مشابهة؛ فظلت مجموعات قليلة من اليسار متمسكة بأيديولوجيتها التقليدية، بينما تخلى قطاع كبير عن الماركسية واتجه إلى الليبرالية كعقيدة بديلة. لكن كتاب سلامة كيلة عن "اليسار السوري في واقعه الراهن"، والذي نعرضه هنا بإيجاز، يرى أن اليسار السوري كان يعيش أزمة عميقة منذ زمن بعيد، وأنه كان يتهمّش ويتفكك وينقسم على نفسه. تأسس الحزب الشيوعي السوري عام 1924، كحزب لسوريا ولبنان، وكان من أقدم أحزاب اليسار هناك وأكثرها بروزاً طيلة أربعة عقود لاحقة، لكنه انقسم في أواسط الستينيات إلى حزب لسوريا وآخر للبنان. وعن واقع اليسار السوري في الوقت الحالي، يقول المؤلف إنه يتميز بالضعف الشديد وفقدان الفاعلية، وإنه في حقيقة الأمر ليس يساراً واحداً بل يساران كلاهما ضعيف وباهت؛ أحدهما في السلطة وآخر في المعارضة. فهل ذلك هو السبب الأساسي الوحيد لانحسار اليسار السوري؟ يعتقد المؤلف أن الوضع الذي يعيشه اليسار حالياً، نتج أيضاً عن التحولات التي حدثت في خمسينيات القرن الماضي، فقد مال الحزب الشيوعي السوري إلى دعم البرجوازية وإلى التأكيد على ضرورة انتصارها لتحقيق الديمقراطية، وذلك ما أكد عليه المؤتمر الثاني المنعقد عام 1943، وشروح خالد بكداش عليه. وقد ترسخ هذا الاتجاه داخل اليسار الماركسي بعد وصول حزب "البعث"، عبر مؤسسة الجيش، إلى سدة السلطة. ومعروف أن "البعث" كان ذا صبغة يسارية في حينه، حيث قاد تحولات اجتماعية أهمها تصفية الإقطاع، وانتهاج استراتيجية البناء الصناعي، وتطوير البنية التحتية... لكنها تحولات كانت في عمقها لصالح الطبقة الوسطى، وقد غطت على ميل واضح إلى "التبرجُز" (التحول إلى الرأسمالية)، بالتوازي مع تكريس الديكتاتورية وتدمير الممارسة السياسية في المجتمع. وحيث دافع الشيوعيون السوريون عن "البرجوازية الصغيرة"، وطالبوا باعتماد الإصلاح الزراعي، والتأميم، وحقوق العمال، والتعليم المجاني، والتحالف مع الاتحاد السوفييتي... أي خط التطور "اللارأسمالي"، فإن وصول "البعث" إلى السلطة، وقد تبنى العمل على تحقيق المطالب ذاتها، أربك الشيوعيين فقرروا الدخول في بنية السلطة الجديدة بعد 16/11 1970. لكن سياسات "البعث" أضعفت القاعدة الاجتماعية للحزب الشيوعي، لاسيما أن قضاياه المطلبية تحققت، ومن ثم دخل في حالة من "الموت السريري" وبدأ العد العكسي لتفككه. وقد عانى الشيوعيون من انقسامات متتالية منذ أواخر الستينيات، تجلى أبرزها في ظهور "الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي"، الذي خرجت منه بدوره مجموعة صغيرة عام 1979. ثم حدث انشقاق آخر في "الحزب الأم" عام 1980 أسفر عن ظهور "الحزب الشيوعي السوري- منظمات القاعدة"، أتبعه انشقاق آخر بداية عام 1987. وفي نهاية ذلك العام أعلنت مجموعة "اتحاد الشيوعيين" خروجها من "المكتب السياسي"، ثم انضمت إليها في عام 1991 "منظمات القاعدة" ومجموعة أخرى انشقت للتو من "الحزب الأم". وفيما بعد انشق "الحزب الأم"، للمرة الرابعة، إذ خرجت منه في عام 2000 مجموعة سمت نفسها "وحدة الشيوعيين". وحسب الكتاب، فإن متوالية الانقسامات داخل الحزب الشيوعي السوري، كانت جزءاً من التكوين السلطوي، عبر المشاركة في "الجبهة الوطنية التقدمية" الحاكمة بقيادة حزب "البعث"، بينما بات قسم آخر، يضم "المكتب السياسي" وفصائل فرعية أخرى، في المعارضة. وفيما ظلت تلك الأجنحة على اختلافها، متمسكة باللينينية، أي الماركسية السوفييتية، كثقافة رائجة لديها جميعاً، فقد تشكلت مجموعات ماوية وتروتسكية في أواسط السبعينيات، وأخرى في إطار "اليسار الجديد" ممثلاً في "رابطة العمل الشيوعي" التي غدت في عام 1981 "حزب العمل الشيوعي". وعلى رغم كثرة الأسماء والتسميات، والعراك الداخلي بين أجنحة اليسار، فإن المؤلف يشير إلى "اختفاء الطابع اليساري" لتلك التشكيلات على اختلافها؛ إذ أصبح التركيز منصباً على "الموقف الوطني"، والدفاع عن "السياسة الوطنية" للسلطة... محوراً لسياسات الفصائل الشيوعية، وإن أشار بعضها أحياناً بالنقد إلى مسائل في السياسة الداخلية. وبالتالي "لم تعد هناك قضية يدافع عنها الحزب الشيوعي، ولم يعد الهدف الذي يسعى إليه يبرر كل يساريته"، بل أصبح "يساراً لا يلعب دور اليسار، وإنما يدافع بخجل عن سلطة تستولي على كتلة أساسية من الفائض المنتج اجتماعياً، وتدفع الطبقات الشعبية إلى الفقر". ومعنى كونه لا يلعب دور اليسار، أنه أيضاً لا يعبر عن الطبقة العاملة، ولا يقدم ما يفيد صيرورة التقدم، كما أن بناه الفكرية قديمة ومتحللة أو جديدة لا لون لها... لذا فالحزب الشيوعي السوري، بفرعيه (المعارضة والسلطة)، "يفتقد الرؤية الفكرية اليسارية، كما يفتقد البرنامج اليساري، إضافة إلى أنه في الهامش، أي هامش السلطة وهامش الحركة الاجتماعية". وفي حقيقة الأمر، لا يعدو النقد الذي يوجهه "سلامة كيلة" بحق اليسار السوري، كونه نقداً ذاتياً من داخل ذلك اليسار، هدفه "إطلاق حركة حوار من أجل تحقيق التجاوز، لأن الواقع يفرض أن يعود اليسار قوة". لكن إلى أن يتحقق حلم المؤلف بهذا الشأن، تتحتم إعادة بناء سائر مفاهيم اليسار الماركسي بعدما أصبحت موضع شك وتساؤل حقيقيين، بما يثير الريبة حول معنى اليسار نفسه، وما إذا كان يمارس دوراً يسارياً بالفعل أم غير ذلك! محمد ولد المنى الكتاب: اليساري السوري في واقعه الراهن المؤلف: سلامة كيلة الناشر: عشتروت للخدمات الطباعة الأخيرة تاريخ النشر: 2007