موضوع النَّسْخ... فضاء للخلاف بامتياز
موضوع "الناسخ والمنسوخ" من أكثر الموضوعات التي حظيت باهتمام زائد لدى المؤلفين في علوم الفقه والأصول وفي "علوم القرآن" وتفسيره. ويرجع سبب هذا الاهتمام، ليس فقط إلى كونه "ضرورياً" لكل باحث أو متكلم في العلوم الدينية في الإسلام، خصوصاً منهم الفقهاء، بل أيضاً إلى كون هذا الموضوع يشكل مجالاً خصباً لتنوع الآراء والاجتهادات، فهو فضاء للاختلاف والخِلاف بامتياز!
وربما كان علماء الدين الإسلامي أكثر اهتماماً بهذا الموضوع من علماء الديانات الأخرى، لأن القرآن الذي هو المصدر الأول للتشريع في هذا الدين قد نزل مُنجَّماً على مدى نحو من ثلاث وعشرين سنة، وأنه قد تضمن بسبب ذلك أحكاماً تختلف مناسبات نزولها، فاختلفت بالتالي مضامينها تبعاً لتلك المناسبات، فاعتبر اللاحق منها حاكماً في السابق، وناسخاً له، خصوصاً إذا كان ذلك مما ينتمي إلى الأمر والنهي. وهذا يجعل المجتهد أو الفقيه أو المفسر أو المتكلم إزاء آيات تقرر في الشيء الواحد أكثر من حكم واحد، الشيء الذي لا يفصِل فيه -كما يقولون- إلا المعرفة بالناسخ والمنسوخ في القرآن جملة. على أن ذلك إنما يخص مجال الشريعة أساساً. أما في ميدان العقيدة فالقضية التي توازن فيه مسألة الناسخ والمنسوخ هي قضية المُحكم والمُتشابه التي نرجئ الكلام فيها إلى حينه.
لنركز اهتمامنا هنا إذن على مسألة النسْخ وحدها ولنتساءل أولاً: ما معنى النسخ؟
تورد معاجم اللغة لمادة "نسخ" معنيين: 1) النسخ: "اكتتابُك كتاباً عن كتاب حرفاً بحرف". 2) "والنَّسْخ: إِبطال الشيء وإِقامة آخر مقامه". وهذا المعنى الثاني هو المقصود عند عموم الفقهاء والأصوليين بـ"النسخ في القرآن". فـنسخ آية بأخرى معناه "إِزالة حكم" الأولى وإثبات حكم الثانية، كما يقول الأشاعرة، أو إزالة مثل حكم الأولى، أي عدم تطبيقه في المستقبل، وإثبات حكم الثانية. كما يقول المعتزلة. وإنما قالوا "مثل حكمها" لأن حكم الأولى مراد من الله لأنه حسن، والحسن عندهم صفة ذاتية للأشياء، وبالتالي فالحسن في الأولى باقٍ وما أزيل عن الثانية هو مثل حكم الأولى. والنسخ عندهم جميعاً لا يقع إلا في الأمر والنهي، وفي الخبر المفيد لمعنى الطلب. أما الخبر الذي لا يفيد هذا المعنى فلا يدخله النسخ..
وهذا الحصر لمعنى النسخ، في الطلب دون الخبر، يقصد به تجنب الخلط بينه وبين البَدَاء (أي أن يقرر الله أمراً ثم يبدو له أمر فيغيِّر ما قرر). وعلى هذا الأساس أنكر اليهود القول بالنسخ، وذلك دفعاً لقول من يقول إن شريعة موسى نسخت بالشرائع التي جاءت بعدها. قالوا "إن الشريعة لا تكون إلا واحدة وهي ابتدأت بموسى عليه السلام وتمت به فلم تكن قبله شريعة إلا حدود عقلية وأحكام مصلحية". وقالوا: فلا يكون النسخ بعد شريعته أصلاً لأن النسخ في الأوامر بداء، ولا يجوز البداء على الله تعالى، وهم يجوِّزونه في الخبر. ولتلافي هذا المعنى فرَّق علماء الإسلام -كما ذكرنا- بين النسخ والبداء، فقالوا إن النسخ لا يكون في الأخبار لأنها تتعلق بعلم الله، وعلمه لا يتغير، وإنما يتعلق النسخ بالأحكام لأن الأحكام تتعلق بمقتضى أحوال الناس، وهي تتغير بتغير الظروف الزمانية والمكانية، وهذا التغير يحدث بسابق علم الله.
إذا نحن غضضنا الطرف عن الجدل في هذه الأمور لأن مجاله العقيدة (علم الكلام) وحصرنا النسخ في أحكام الشريعة وحدها فإننا لا نملك إلا أن نلاحظ أن هناك، في هذا الميدان، ما يبرر الطعن في كثير مما كُتب وقيل في موضوع النسخ. يأتي على رأس ذلك المبالغة في استعمال هذه المقولة إلى حد التكلُّف. ثم هناك خلط بين مقولة النسخ هذه وبين مقولات أخرى مثل العام والخاص، والمُطلق والمقيَّد، والمُجمل والمبيَّن، والمُبهم والمُعيَّن. فكثيرة هي الآيات التي جاءت في صيغة العام أو المطلق أو المبهم أو المجمل فخُصصت أو قُيدت أو بُيِّنت بآيات أخرى، فاعتبر كثير منهم هذه ناسخة وتلك منسوخة، وهذا شيء ينطوي على تجاوز كبير: فالعام والمطلق والمبهم والمجمل صيغ لفظية تقع موقع الكلي أو الجنس، أما الخاص والمقيد والمفصَّل فهي صيغ تقع في موقع الجزئي والمفرد. والجزئي لا ينسخ الكليَّ كما لا ينسخ المفرد الجنسَ. فإذا اعتبرت هذه الأشياء تقلَّص مجال الناسخُ والمنسوخ إلى حد كبير.
على أن الإشكال الذي تطرحه مقولة النسخ ليس محصوراً في المبالغة في توظيفها، بل إنه إشكال يطال جواز أو عدم جواز القول به. هناك من يقول بوقوعه مطلقاً وهناك من ينكر ذلك، وهناك من يقول بوجوده في القرآن ومن ينكر ذلك.
أ- أما القائلون بوقوع النسخ مطلقاً فيحتجون بما يلي، قالوا: "إن الدلائل دلت على أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا تصح إلا مع القول بنسخ شرعِ مَن قبله، فوجب القطع بالنسخ". وقد أجاب منكرو النسخ بقولهم: "لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال: إن موسى وعيسى عليهما السلام أَمَرا الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك أُمِر الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فعند ظهور شرع محمد صلى الله عليه وسلم زال التكليف بشرعهما وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة والسلام، لكن ذلك لا يكون نسخاً، بل جارياً مجرى قوله: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ" (البقرة: 187)، أي إلى أن يحين الليل بغروب الشمس. فالمسألة في نظرهم مسألة تأجيل: تأجيل التوقف عن العمل بشرع موسى وعيسى إلى أن يأتي شرع محمد. وهم يحتجون لرأيهم هذا بقولهم: "قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما السلام قد بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام، وأن عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه. وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بوقوع النسخ".
ب- هذا عن جواز -أو عدم جواز- وقوع النسخ مطلقاً. أما عن جواز وقوعه في القرآن فقد قال به جمهور علماء المسلمين، وكان هناك من أنكره. احتج القائلون بالنسخ بعدة آيات أبرزها قوله تعالى: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة 106). وقد رد منكرو النسخ في القرآن على ذلك من عدة أوجه منها قولهم: "إن المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل"، ومنها "أن الله تعالى وصف كتابه (القرآن) بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه... فلو كان فيه نسخ لكان قد أتاه الباطل". وقال آخرون إن الإسلام جاء ناسخاً للديانات الأخرى فلا يعقل أن يكون فيه منسوخ، وهو الناسخ لما قبله. وفي رأي القائلين بالنسخ إن هذه حجة تنتمي إلى مجال الفكر المجرد، لا غير. أما في الواقع فمسألة الناسخ والمنسوخ تكتسب مشروعيتها من القرآن نفسه، من كونه نزل منجماً ولمناسبات معينة تختلف زماناً ومكاناً... الخ.
ومن تفريعاتهم أيضاً اختلافهم في هل ينسخ القرآن بالقرآن وحده، أم أنه يجوز أن ينسخ بالسُّنة والإجماع، فقال بعضهم: لا يُنْسَخُ القرآن إلا بقرآن كقوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها" قالوا: ولا يكون مثل القرآن أو خيرًا منه إلا قرآن. وقيل بل ينسخ القرآن بالسُّنة لأنها أيضاً من عند الله، قال تعالى: "وما ينطق عن الهوى" (النجم 3). وقال آخرون: إذا كانت السُّنة بأمر الله من طريق الوحي نَسَخَتْ، وإن كانت باجتهاد فلا. وحرص الشافعي على توافق القرآن والسنة فقال: "حيث وقع نسخ القرآن بالسُّنة فمعها قرآن عاضد لها، وحيث وقع نسخ السُّنة بالقرآن فمعه سُنة عاضدة له". واختلفوا هل ينسخ الإجماعُ القرآن؟ فقال بعضهم بجواز ذلك، ومثلوا له بآيات.