التجديد في الدين يتطلب أساسا -عندما يتعلق الأمر بالإسلام- تجديد الفهم للقرآن. ومنذ القديم ميز علماء الدين في الإسلام بين الأحكام ومكارم الأخلاق. أما الأحكام التي تشرع للعبادات والمعاملات وما يتصل بها من عقاب وثواب···إلخ، فهي لا تشكل إلا نسبة صغيرة من عدد آيات الذكر الحكيم. أما الباقي فكله في الأوامر والنواهي الأخلاقية أو تدور حولها. وفي الجملة فمن جميع آيات القرآن، المكية والمدنية، التي يبلغ عددها 6236 آية، ليس هناك في موضوع "الأحكام" سوى 634 آية حسب الفقيه ابن العربي و500 آية حسب الغزالي، من القدماء، بينما يحصرها بعض المحدثين في 300 أو 340 آية، وينزل بها آخرون إلى نحو 200 آية.
والسبب في هذا الاختلاف يرجع إلى المعنى الذي يعطيه كل منهم لكلمة "الحكم" في عبارة "آيات الأحكام". فبينما يوسع بعضهم كابن العربي معنى "الحكم" ليشمل الآيات التي تعبر عن الإرادة الإلهية كـ"خلق السموات والأرض" وتقرر سنة الله في الكون··· إلخ، يحصر آخرون معنى "الحكم" في الأوامر والنواهي الخاصة بالعبادات والأحوال الشخصية وشؤون المعاملات، كالبيع والرهن والتجارة···إلخ، والقضايا الجنائية. وليس في كل ما تقدم من عقوبات جنائية إلا فيما يعرف بـ"الحدود" وهي أربعة، حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة (قطاع الطرق). أما الباقي فيدخل كله في مجال الأخلاق، مجال الحث على الفضائل والنهي عن الرذائل.
وبما أن القرآن الكريم (والسنة النبوية المبينة له) لم يشرع لجميع جزئيات الحياة، ما كان منها في عصر النبوة وما طرأ بعدها، وهو كثير، فإن تطبيق الأحكام الشرعية على المستجدات التي تكاثرت باتساع رقعة بلاد الإسلام وتنوع عادات أهلها وأعرافهم وخضوع ذلك كله لسنة التطور، يقتضي الاجتهاد لالتماس الحكم الشرعي من القرآن والسنة وإجماع الصحابة، وبذلك صار الاجتهاد أصلا من أصول التشريع. والاجتهاد بهذا المعنى يعني الرجوع بالأحكام المنصوص عليها إلى عللها أو مقاصدها لتعميمها على المستجدات التي لم يرد فيها نص. وهنا انقسم المجتهدون إلى قسمين: قسم يعتمد منهجية تقوم على اعتبار العلل، وقسم يعتمد منهجية مبنية على اعتبار المقاصد. واختلاف الفقهاء في كثير من المسائل في عصرنا كما في العصور السابقة، إنما يرجع إلى اختيارهم هذه المنهجية أو تلك.
وهكذا فالجدل الذي أثير مؤخرا حول مسألة الحجاب، وحول الفوائد البنكية وغيرها يرجع من الناحية المنهجية الأصولية إلى ما يسمى بـ>دوران الأحكام<، بمعنى هل الأحكام الشرعية تدور مع عللها أو مع حكمتها.
والفرق بين العلة والحكمة في اصطلاح الفقهاء: أن العلة وصف في الشيء الذي صدر فيه الحكم، وبذلك الوصف يعرف وجود الحكم. فالإسكار وصفٌ في الخمر وبه عُرف تحريمُه فهو إذن علة التحريم. والسفر والمرض هما العلة في إباحة الإفطار في رمضان الخ، وهكذا. فإذا عرف المجتهد العلة التي استوجبت الحكم في شيء معين عمموا ذلك الحكم على كل ما فيه تلك العلة. وإذا انتفت العلة سقط الحكم. وهذا هو معنى القاعدة الفقهية التي تقول إن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما.
هذا عن العلة، أما الحكمة فهي الباعث على الحكم وهو إما جلب مصلحة وإما دفع مضرة: فالحكمة من تحريم الخمر هي دفع مضرة ذهاب العقل بالسكر، والحكمة في إباحة الإفطار في رمضان للمسافر والمريض هي دفع مضرة المشقة وهكذا... فالحكمة، في نهاية التحليل، هي المصلحة التي روعيت في إصدار الحكم.
وأغلبية الفقهاء، يقررون أن الحكم الشرعي يدور مع علته وليس مع حكمته بحجة أن الحكمة قد تكون خفية غير ظاهرة، في حين أن العلة من شروطها أنها >وصف ظاهر منضبط<. فالحكمة من إباحة الإفطار في رمضان للمسافر والمريض هي دفع المشقة عنه، كما قلنا، فلو جعلنا الحكم يدور مع المشقة وجودا وعدما لوقعنا -كما يقولون- في اختلاف كبير حول تقدير حجم المشقة التي يجوز فيها الإفطار أو لا يجوز، وقد يؤدي بنا ذلك إلى إباحة الإفطار في مشاق أخرى غير تلك التي تحصل بالسفر والمرض، مثل مشاق العمل في المصانع وغيرها، وهذا في نظرهم غير مقبول. ومن أجل تلافي كل ذلك قالوا إن الحكم يدور مع علته لا مع حكمته لأن العلة كما قلنا هي-باصطلاحهم- وصف ظاهر منضبط ينبني عليه الحكم ويربط به وجودا وعدما ويكون مناسبا لحكمته، بمعنى أن بناء الحكم عليه من شأنه أن يحققها. وهكذا يقولون إن الإفطار في رمضان يجب أن يبنى على العلة وهي السفر والمرض، وليس على المشقة.
لا شك أن هذا النوع من الاستدلال والمحاجة مبرر تماما ومعقول تماما داخل إطار نظام معرفي استدلالي مبني على القواعد الأصولية التي وضعها الفقهاء القدامى والتي من جملتها القواعد الخاصة بالتعليل والقياس والدوران وما إلى ذلك. ولكن القواعد الأصولية هذه ليست مما نص عليه الشرع، لا الكتاب ولا السنة، بل إنها من وضع الأصوليين. إنها قواعد للتفكير، قواعد منهجية، ولا شيء يمنع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها أن تحقق الحكمة من التشريع في زمن معين بطريقة أفضل. والمجتهدون إن