عموم اللفظ وخصوص السبب... محاولة للتفكيك
من العبارات التي تجري على ألسنة كثير ممن يتولى "الإفتاء" باسم شريعة الإسلام، من عموم الكتاب والصحفيين غير المختصين، عبارة تنتمي إلى القواعد النظرية التي صاغها علماء أصول الفقه والتي تؤكد على أن "العبرة (والأصح الاعتبار) بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". ومع أن "جمهور الأصوليين" يقولون بذلك، فإن كثيرين منهم يقولون بالعكس، أعني: "الاعتبار بخصوص السبب لا بعموم اللفظ". ولكل منهم حججه وتبريراته. والناظر في حجج هؤلاء وهؤلاء يتبين له أن اختلافهم لا يمس جوهر الأحكام، وإنما يخص طريقة الاستدلال عليها.
ولفهم هذه المسألة، بعيداً عن كل تقليد أو تحزب، يجب الرجوع إلى تاريخ صياغتها والمراحل التي مرت بها، باعتبار أن الأمر يتعلق بقاعدة "أصولية"، مستندها الاجتهاد لا غير، بمعنى أنه لا نص يسندها من القرآن، أما من الحديث فهناك نص عام يستند إليه الطرفان معاً وسنبيِّن ذلك بعد. وأما الإجماع فقد تعرفنا عليه بتفصيل في المقالات السابقة، وبالتالي فما يصدق على دعوى الإجماع، بصورة عامة، يصدق على القول إن الإجماع قد قام على أن "الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، أو العكس. وبما أن زمن تحرير هذه القاعدة يرجع إلى أواسط العصر العباسي، فإنها لا "تستفيد" من إسنادها إلى "إجماع الصحابة"، وبالتالي تبقى من مجال ما عبّر عنه أبو حامد الغزالي بـ"العادة"، وقد شرحنا ذلك في مقال سابق.
وليست صيغة هذه القاعدة هي وحدها المستحدثة من طرف علماء الأصول، بل إن المفاهيم التي منها تتكون (عموم، خصوص، سبب) هي أيضاً من المفاهيم المستحدثة. إن الأمر يتعلق بألفاظ تنتمي إلى الجهاز المفاهيمي الذي شيده علماء الأصول بهدف الاقتراب أكثر ما يمكن من فهم النص الديني (قرآناً وحديثاً)، واستنباط الأحكام منه. إنها بهذا الاعتبار إحدى عن "قواعد المنهج" التي يوظفها في فهم القرآن، كل من يريد اكتساب معرفة عالمة –موضوعية حيادية- من النص القرآني، سواء على مستوى اللسان الذي نزل به (العربية) أو على مستوى ما يقرره في مجال العقيدة والشريعة. و"قواعد المنهج" –في أي حقل معرفي- مرجعها الاجتهاد لا غير، ولذلك فهي تختلف من حقل معرفي لآخر ومن وقت لآخر... الخ.
وإذا نحن عدنا إلى تاريخ نشأة "قواعد المنهج" في علم أصول الفقه، فإننا سنجد أن أول محاولة "عالمة"، قامت بالتأسيس لها هي محاولة اللغويين الذين عاشوا في أوائل عصر التدوين، حينما تمت –أو كادت تتم- عملية جمع اللغة العربية ووضع قواعد لها على مستوى النحو والصرف والإعراب، وبدأت عملية استخلاص أنماط التعبير فيها مما سينتهي أمرها إلى "علم البلاغة". إنه العصر الذي عاش فيه كل من الخليل بن أحمد واضع أول معجم للغة العربية وأول كتاب في موازين الشعر (العروض)، وسيبويه صاحب "الكتاب" الذي جمع قواعد اللغة العربية وأرسى أصولها في نسق مُحكم ما زال يحتفظ بصلابته إلى اليوم، يقاوم التغيير بعناد! وإلى جانب هذين المرجعيين الذين لا يضاهيهما مرجع آخر في مجالهما، كان هناك في العصر نفسه علماء لغويون آخرون ركزوا اهتمامهم أيضاً على ما يمكن اعتباره أولى المحاولات للاقتراب من "معاني القرآن". وربما كان هذا المصطلح الذي اعتمدوه، أعني لفظ "معاني القرآن" هو أول مفهوم إيبستيمولوجي (معرفي) وظف للتعبير عن الطريقة الخاصة بالخطاب القرآني، في التعبير عن المعاني. لقد اشتهر في هذا المجال كل من أبي عُبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى التميمي صاحب كتاب "مجاز القرآن"، ويحيى بن زياد الفراء صاحب كتاب "معاني القرآن"، والأخفش صاحب كتاب بنفس العنوان. بينما اشتهر مقاتل بن سليمان بكونه مؤلف أول تفسير "كامل" للقرآن. لقد عاش هؤلاء الرواد الأول، في ميدان التأليف في معاني القرآن وتفسيره، خلال القرن الثاني وبداية الثالث للهجرة. نقول "ميدان التأليف في معاني القرآن "، وليس مجرد "الكلام" فيها، بالرأي أو بالرواية، لما يتميز به "التأليف" من تبويب وتنظيم وتوظيف لمفاهيم وآليات في الاستدلال.
ومع أن هؤلاء الذين ألفوا في "معاني القرآن" كانت تجمعهم الرغبة في الاقتراب المنظم المبوب من فهم كتاب الله كما نزل بـ"لسان عربي مُبين"، فقد اختلفت سبلهم إلى ذلك. فمقاتل بن سليمان قد تجاوز الشرح اللغوي للكلمات إلى "التفسير بالأثر" أي بالمرويّات، بما في ذلك الاهتمام بذكر الحوادث التي تروى كـ"أسباب" لنزول هذه الآية أو تلك. أما كتاب الفرا فهو أكثر اهتماماً بالناحية اللغوية، يشرح الكلمات والعبارات ويذكر اختلاف اللغات مع عناية بالإعراب. ومثله فعل الأخفش.
أما أبو عبيدة معمَر بن المثنى فقد انفرد عن المذكورين بطريقة خاصة سماها "مجاز القرآن". وهذا مفهوم جديد يتجاوز مصطلح "معاني القرآن" لكونه لا يكتفي بشرح ألفاظ القرآن الكريم استناد إلى معانيها اللغوية المعجمية، بل يتجاوز ذلك إلى بيان الطرق والكيفيات التي ينتقل (يجتاز) بواسطتها الخطاب القرآني من الألفاظ التي يعبر بها إلى المعاني التي يقصدها. وإذن، فليس المقصود بـ"المجاز" هنا معناه البلاغي (المجاز في مقابل الحقيقة)، فهذا المعنى لم يكن قد تخصص بعد، وإنما المقصود هو الطريقة التي يستعملها القرآن في التعبير عن -أو العبور إلى- معانٍ معينة، طريقة قوامها أنواع من تركيب الجمل وصياغة الكلام لا تتقيد دائماً بما وضعه اللغويون والنحاة من قواعد "تضبط" اللغة العربية. ومن هذه الناحية يفرض أبو عبيدة نفسه –كما سنرى لاحقاً- مرجعية للشافعي في كتابه "الرسالة" (الأول ولد سنة 110 والثاني سنة 150).
ونحن إنما وقفنا مع هؤلاء هذه الوقفة، لأنها ضرورية فيما نحن بصدده. ذلك أن اللفظين الأساسيين الذين تتألف منها القاعدة الأصولية التي تنص على أن "الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" (مفهومي العام والخاص أو العموم والخصوص) إنما نجدهما لأول مرة عند الشافعي؛ وإذا ورد أي منهما في المؤلفات السابقة –ونادراً جداً ما يحدث ذلك- فإن دلالتهما لا تتجاوز المعنى اللغوي المعروف. أما مضمونهما الاصطلاحي فنجده لأول مرة، وفي شكله الابتدائي، في اللائحة التي وضعها أبو عبيدة لما أسماه "مجاز القرآن"، وهذا ما جعنا نعتبره "السلف" الأصيل للشافعي في هذا الموضوع.
لم يعبر أبو عبيدة عن المضمون المفهومي، الاصطلاحي، لكل من "العام" و"الخاص" بهذين اللفظين، وإنما عبّر عنه بلفظين آخرين هما: "الجميع" و"الواحد". أما القاعدة الأصولية التي صيغت منهما وهي "الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" (أو العكس) فهي غائبة تماماً عن أفق تفكير أبي عبيدة، وذلك لسبب معقول، وهو أنه لم يكن منشغلاً بما سيسميه الأصوليون بـ"استثمار الأحكام من الألفاظ"، إن اهتمامه كان منصرفاً كله إلى "فهم كلام الله" بالتقيد بالطرق والكيفيات التي تعبر بها العرب عن معانيها: أفكارها ومقاصدها، لا غير. كان غرضه فهم الخطاب وليس التشريع للعقل أو السلوك.
ينطلق أبو عبيدة في كتابه من التأكيد على أن القرآن "إنما أُنزل بلسان عربي مبين... فلم يحتج السلف، ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عربَ الألسُن، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه، وعما فيه، مما في كلام العرب مثلُه، من الوجوه والتلخيص. وفي القرآن مثلُ ما في الكلام العربي من وجوه الإعراب، ومن الغريب، والمعاني" (ويدخل كل ذلك في مفهوم "مجاز القرآن" عند أبي عبيدة).
بعد ذلك يأخذ في عرض وشرح أنواع هذا "المجاز"، وهذا ما سنعرض له.