الجاحظ... حكايات اللصوصية والفساد المنهجي
اهتم الأديب الكبير الجاحظ بنمط معيّن من المال، وأولاه شطراً غير ضئيل من كتاباته النافذة، وكان ذلك في عصر العباسيين، الذي اتسم بالجشع والشحّ والأنانية والبخل واللصوصية، في كثير من العلاقات الاجتماعية التي قامت بين الناس. عاش الرجل ما بين سنتي 159 و255 للهجرة، وكان التفاوت الاجتماعي قد ذهب كل مذهب. ودور الأديب العقلاني الجاحظ من الصعب أن يُستنفد في واحد من حقول الثقافة، ومن ذلك ما كان يلاحظه ويراقبه في المجتمع العباسي عموماً، والبغدادي بكيفية خاصة من استئثار بثروة المجتمع العام من قِبل مؤسسة الخلافة، وما يتصل بها من آلاف المرجعيات القائمة على هذه الثروة. فكتب كتابه الشهير "البخلاء"، إلى جانب كتاب آخر حمل عنوان "تصنيف حيل لصوص النهار وتفصيل حيل سُرّاق الليل". وكان الجاحظ في هذين الأخيرين في موقع الأديب الحصيف والناقد لـ"لصوصية المال العام"، ومن ثم لمنظومة القيم الأخلاقية، التي كانت سائدة في أوساط الكثير من الأثرياء التجار والمسؤولين والمرابين، الذين غالباً ما كانوا يجدون في السلطة المحلية وأحياناً المركزية، دعماً لهم وحماية. ومن طرف آخر، كانت أعداد الفقراء والمفقرين والمهمّشين والمتعصّبين في تزايد، مِما كان يوسع دائرة إمكانات العيش عن طريق السرقة والرشوة. وهذا ما نظر إليه فريق من هؤلاء الفقراء... الخ، على أنه الطريق الوحيد للحفاظ على حياتهم. بل هناك من سوّغ السرقة والرشوة بهدف تأمين العيش الأوّلي، وذلك عبر النظر إلى المال الذي يسرقونه أو يأخذونه بصيغة الرشوة، على أنه "مالهم الخاص الذي نُهب منهم". وقد أثر ذلك بوضوح على بنية المجتمع العباسي الاقتصادية والأخلاقية والسياسية، فأنتجت نمطاً من الناس، الذين أطلق عليهم لفظ "مفْلوكين -من الفلاكة"، فهم فقراء دهماء فقدوا توازنهم النفسي والمادي والأخلاقي والجمالي، فأصبحوا بمثابة شخصيات هجينة ملفّقة مستعدين للقيام بالاحتيال والسرقة وانتهاز الفرص للإيقاع بهؤلاء أو بأولئك. وهذا من شأنه أن أنتج بنية أخلاقية رجراجة في أوساط "المفلوكين" راحت تبدو "كأنها من طبائعهم". وإذا سرنا خطوة إلى أمام ووضعنا يدنا على التمييز الذي تحدث عنه الجاحظ بين لصوص النهار وسُرّاق الليل، فإننا قد نتبين دلالة ذلك في الفكرة التالية: إن لصوص النهار إنما هم أولئك الباحثون عن لقمتهم ببساطة وعلى نحو مباشر، أي دونما اللجوء إلى "وسطاء" من حاشية الحكام وبطانتهم، لأنهم دون ذلك قدْراً وأهمية وفاعلية في عملية الحصول على "المال العام". أما سُرّاق الليل فهم أولئك الذين يشتغلون بالتواطؤ مع قوى "خفية" من البصّاصين وشرطة المدينة والمقرّبين من القصر بكل تلاوينهم المجتمعية والأيديولوجية والسلطوية وغيرها، ولم يكن -من ثمّ- غريباً أن اشتركت جموع من "المفلوكين" في الهبّات، التي أشعلها خصوم القصر والطبقة الحاكمة في سبيل الوصول إلى القصر ذاته وإلى موقع هذه الطبقة نفسها، اعتقاداً منهم (أي المفلوكين) بأنهم سيحصلون على الثمن كيفما كان، هذا بالإضافة إلى هبّات وانتفاضات قام بها هؤلاء "المفلوكون" أنفسهم، كان عليها أن تُدمّر تدميراً.
ونحن نكتشف هذه الصور وغيرها في واحدة من أهم وثائق العصر العباسي تعبيراً ودلالة، وربما كذلك استفزازاً، ونعني موسوعة "ألف ليلة وليلة". فها هنا نواجه اللصوص والسُّراق والخارجين على القانون والقتلة والمستبدّين، بما يكفي من الوضوح، ولكن كذلك بأقل حجماً، نواجه من رفضوا ذلك وأدانوه وكافحوا -بطرق مختلفة- من أجل عدالة وحرية وكفاية مادية قادرة على الحفاظ على "آدمية" البشر.
ولاشك أن الأديب والمفكر الناقد الجاحظ كان يدرك، بقدْر أو بآخر، أن المشاهد، التي تُقدمها موسوعة ألف ليلة وليلة، ليست مغروزة في جلد البشر، فالبشر أميل إلى العيش بكرامة وحرية وكفاية مادية، من أن يكونوا وحوشاً ذئبية تلتهم الثروة والسلطة والجنس. بيد أنه من مفارقات التاريخ الكبرى أن ثمن التقدم الحضاري، ربما يصل إلى أن يُقايض عليه بـ"موت الإنسان"، الذي يبحث عن ذلك الثالوث بنهم وجشع وأنانية فائقة، وذلك تحديداً في المجتمعات القائمة على المشهد الذي قدمه المفكر البريطاني "برناردشو" الشهير بصلعته المثيرة. فقد أعلن أن العالم في العلاقات الاستغلالية الشاذة المهيمنة فيه، يماثل صلعته المثيرة ولحيته: فهي صلعة تفتقد أي حدٍّ من الشعر، في حين تقوم لحيته على شعر غزير كثيف، مما يؤسس لعلاقة غير متوازنة وقابلة للإدانة بتهم "اللاعدالة والاستفراد والظلم". ولابد من أن يكون عصرنا هذا الذي دشّنه النظام العالمي الجديد المؤمْرك قبل ما يقرب من العِقدين، واحدة من القمم الكبرى، التي انتهى إليها التاريخ العربي والعالمي في تكريس البؤس والفقر والتفاوت المادي بين شعوب العالم، وبين فئات ضمن هذه الشعوب، ناهيك عن عواصف الفساد والإفساد، التي يشرف عليها خبراء عتاة في منهجية الفساد في سوق كونية سِلعية تسعى إلى إعادة بناء الإنسان مستهلكاً قاتلاً مقتولاً.