ما الذي يمنح "الإجماع" سلطة التشريع؟
على أي أصل يستند الإجماع؟ وبعبارة أخرى ما الذي يمنح الإجماع سلطة التشريع في الإسلام؟ ليس من شأننا هنا إبداء الرأي في موضوع تزاحمت فيه الأقوال وتضاربت. كل ما نطمح إليه هو تتبع سياق تفكير أحد كبار علماء الأصول، وليكن الغزالي الملقب بـ"حجة الإسلام"، والذي رد على الإمام مالك في قوله إن الإجماع هو إجماع أهل المدينة فقط، كما رد على من قال إن الإجماع هو إجماع الصحابة فقط. إن الغزالي يدافع عن الإجماع بمعناه الشامل أي "اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة على أمر من الأمور الدينية" (المستصفى ج1 ص173)، ولا يخصه بأي عصر، كما لا يقيده بانقراض أهل العصر. فكيف يؤسس الغزالي الإجماع بهذا المعنى، وبعبارته هو ما هو "مستند الإجماع"؟
يجيب الغزالي: "ومستند الإجماع، في الأكثر، نصوص متواترة وأمور معلومة ضرورة بقرائن الأحوال" (نفسه 174). وعندما يشرع في تفصيل القول في ذلك يلاحظ أن جميع الآيات التي يستشهد الأصوليون بها على حجِّية الإجماع مثل قوله تعالى: "وكذلك جعلنكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة 141) وقوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"... الآية (آل عمران : 110) وقوله تعالى: "وممن خلقنا أمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون" (الأعراب 181)، وقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" (آل عمران 103)، وقوله تعالى: "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" (الشورى 10) -و"مفهومه أن ما اتفقتم فيه فهو حق"، وقوله تعالى "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" (النساء 59)، و"مفهومه: إن اتفقتم فهو حق"- يلاحظ الغزالي أن هذه الآيات "كلها ظواهر لا تنص على الفرض، بل لا تدل أيضاً دلالة الظواهر"، وأقواها قوله تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويبتغ غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولَّى ونُصله جهنم وساءت مصيراً" (النساء 115)، ثم يضيف: فإن ذلك يوجب اتباع "سبيل المؤمنين"، وهذا ما تمسك به الشافعي. ومع ذلك فالغزالي يقرر: "أن الآية ليست نصاً في الفرض أي الإجماع، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نوله ما تولى" (نفسه 167).
هكذا ينتهي الغزالي إلى أن الآيات التي يستشهد بها عادة على حجِّية الإجماع لا تؤسس الإجماع لأنها لا تنص عليه.
ثم ينتقل إلى السُّنة فيلاحظ بادئ ذي بدء أن "التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم "لا تجتمع أمتي على الخطأ" أقوى في إثبات حجِّية الإجماع من التمسك بالآيات المذكورة، غير أنه يبادر فيلاحظ أن هذا الحديث "ليس بالمتواتر كالكتاب"، ولذلك يحاول تعزيزه، فيقول: "فطريق تقرير الدليل أن نقول تضافرت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الأمة من الخطأ، واشتهر على لسان المرموقين والثقات من الصحابة بألفاظ مختلفة (يورد بعضها) أن: "لم تزل -تلك الأحاديث- ظاهرة في الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الأمة وخلَفها" (نفسه)، بالإضافة إلى أن "هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع ولا يُظِهر أحد فيها خلافاً أو إنكاراً إلى زمن النَّظام" (المعتزلي). ثم يضيف: "ويستحيل في مستقر العادة توافق الأمم في أعصار متكررة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته". وأيضاً فإن "المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا بها أصلاً مقطوعاً به وهو الإجماع الذي يحكم به على كتاب الله تعالى وعلى السُّنة المتواترة ويستحيل في العادة التسليم بخبر يرفع به الكتاب المقطوع به إلا إذا أسند إلى سند مقطوع به" (نفسه 176).
وواضح أن الغزالي يستدل هنا على حجية "الإجماع" بـ"إجماع" الصحابة والتابعين على التسليم بالأحاديث المذكورة التي هي -كما قال- المستند الأقوى للإجماع". أما مستنده في القول بإجماع الصحابة على التسليم بتلك الأحاديث فهو الخبر المستفيض وهو أقل درجة من المتواتر. ولا يتغير الأمر إذا رفعناه إلى مستوى التواتر لأنه سيكون حينئذ قد استند في إثبات هذا التواتر إلى الإجماع (إجماع الصحابة)، وكان قد جعل الإجماع من قبل مستند التواتر!؟ وهذا دور فاسد.
وقد استشعر الغزالي ما في هذا المسلك من دور وفساد دليل فكتب يقول: فإن "قالوا قد استدللتم بالخبر على الإجماع ثم استدللتم بالإجماع على صحة الخبر، فهَبْ أنهم أجمعوا على الصحة، فالدليل على أن ما أجمعوا على صحته فهو صحيح، وهل النزاع إلا فيه؟ قلنا: لا. بل استدللنا على الإجماع بالخبر وعلى صحة الخبر بخلو الأعصار من المدافعة والمخالفة، مع أن العادة تقتضي إنكار إثبات أصل قاطع يحكم به على القواطع بخبر غير معلوم الصحة، فعلمنا بالعادة كون الخبر مقطوعاً به، لا بالإجماع"، ثم يضيف الغزالي مبيناً أهمية العادة في هذا المجال فيقول: "والعادة أصل يستفاد منها معارف، فإن بها يعلم دعوى معارضة القرآن واندراسها، وبها يعلم بطلان دعوى نص الإمامة وإيجاب صلاة الضحى وصوم شوال، وإن ذلك لو كان لاستحال السكوت عنه" (نفسه ص 177).
لكن، ما حقيقة هذه العادة التي يجعلها الغزالي مؤسسة للإجماع، الإجماع الذي يقول عنه هو وغالبية الأصوليين إنه: "أعظم أصول الدين"؟
الواقع أننا سنكون قد شوّهنا فكر الغزالي في هذه المسألة إذا نحن فهمنا من "العادة" معناها اللغوي المعروف، والذي يشير إلى القيام بأعمال لا تصدر عن الإرادة بل عن مجرد الألفة والتكرار. إن "العادة" عند الأشاعرة تعني ما نعبر عنه نحن اليوم بـ"اطراد الحوادث"، وهم كثيراً ما يستعملون عبارة "مستقر العادة" ويعنون به أن نظام الحوادث يبقى مستقراً على حالة معينة، أي وفق ما نسميه بـ"قانون السببية"، إلى أن تتدخل الإرادة الإلهية فتخرق تلك العادة "أي تعطل قانون السببية" وتظهر المعجزة الخاصة بالأنبياء، وربما أضاف إليها بعضهم، والغزالي على رأسهم، كرامات الأولياء.
وإذن فعندما يقول الغزالي: "والعادة أصل يستفاد منها معارف" فإنما يعني بذلك أن اطراد العمل بالإجماع يمكن أن يكون "أصلاً" تبنى عليه نتائج، كما أن قوله: "فعَلِمْنا بالعادة كون الخبر مقطوعاً به" (والمقصود هنا الحديث النبوي القائل: لا تجتمع أمتي على خطأ)، معناه أن اطراد تداول هذا الحديث لدى السلف قد أكسبه مصداقية توازن مصداقية أي حادث طبيعي مطرد كاحتراق القطن عند ملامسته النار، وبذلك أصبح "مقطوعاً به"، أي صحيحاً. وهكذا فـ"العادة"، أو الاطراد، هنا تعني إجماع السلف على صحة الحديث الذي يستدل به على حجية الإجماع، وهذا ما عبر عنه الغزالي نفسه في نهاية مناقشته لهذا الموضوع. قال: "أجمعت الأمة على وجوب اتباع الإجماع" (نفسه 180)، وبعبارة غيره: "الدليل على أن الإجماع أصل إجماعهم على العمل بالإجماع".
فعلاً يمكن القول إنه لا أحد من المسلمين ينازع في اتباع الإجماع. ولكن المشكلة التي طرحت نفسها على الأصوليين هي: هل تحقق في يوم من الأيام إجماع المسلمين -أو المجتهدين منهم على الأقل- حول حكم معين، بل هل يمكن عملياً قيام الإجماع في أي عصر من العصور؟
لقد رأينا في المقال السابق أن أئمة كباراً يستبعدون ذلك. فالإمام مالك يرى أن الإجماع هو إجماع أهل المدينة فقط، وهو يقصد زمن الصحابة والتابعين، لأنهم قد ورثوا عمل النبي فصار فيهم تقليداً وعادة، فإجماعهم على حكم معناه السير وفق السُّنة النبوية التي اعتادوا العمل بها، ومن هنا كان "عمل أهل المدينة" عنده أصلاً من أصول التشريع. وهناك من الأصوليين من يقصر الإجماع على إجماع الصحابة وحدهم دون غيرهم، ولكن بدون تقييده بـ"المدينة"، وهناك من استبعد حصول الإجماع حتى في عصر الصحابة إذا كان المقصود هو اجتماعهم وتداولهم في مسألة معينة والانتهاء إلى رأي واحد تتم الموافقة عليه بـ"الإجماع".
ليس هناك إذن "إجماع" حول "إجماع الصحابة" والذين يقولون هذا يستشهدون بالخلاف الذي قام بين المهاجرين والأنصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والخلاف الذي أدى إلى الفتن التي نشبت منذ أواخر خلافة عثمان؟
كل ذلك يردنا إلى سؤالنا الذي انطلقنا منه: ما الذي يبرر اتخاذ "الإجماع" مصدراً للتشريع؟ وإذا قلنا بـ"العادة" كما يفهمها الأشاعرة وعلى رأسهم الغزالي، ومعناها عندهم نفي ضرورة ارتباط المسببات بأسبابها (قد تكون النار مشتعلة ولا يحترق القطن)، فماذا لو طبقنا هذا على تسلسل الروايات التي بها نثبت "إجماع السلف" أولاً، ثم "إجماعهم على العمل بالإجماع" ثانياً؟
أسئلة كثيرة! تحتاج إلى مناقشة والتماس جواب!