يبدو أن أصحاب "لسان العرب" و"النحو الواضح" و"مؤلف الأجرومية" وشراحها، لم يستطيعوا جميعاً إيصال رسالة مفادها أن لغة العرب و المسلمين انكسرت أضلاعها أمام أبواب أصحابها الذين أغرقوا علماء الأندلس من الأوروبيين في بحر آدابها وقواعدها وإملاءاتها على الواقع الذي أجبر الكنائس في ذلك الوقت على إصدار قرار متعسف يمنع ابتعاث الطلبة الأوروبيين للدراسة في أرض الأندلس خوفاً من ضياع لغتهم أمام المتنافس المقدام في ذلك الزمان المقدم. رحم الله سيبويه أو رائحة التفاح الذي ذهب شهيداً لهذه اللغة نتيجة أخطاء ارتكبت أمامه من قبل بعض الأعراب المقرَّبين من الحكام في أرضه فلم يورِّثه المرض إلا طول الكمد والحزن حتى فارق الحياة وهو متحسر على ما وصلت إليه لغة الضاد في حالة من التردي من وجهة نظره. ورحم الله عرب ذلك الزمان عندما كانوا يرسلون أبناءهم إلى البادية لتعلم اللغة العربية الفصيحة والبعيدة من التكسر أو اللحن النشاز وكل ما يسيء إلى حركة اللغة في المجتمع آنذاك، لأن ذلك العيب كان صعب الإخفاء عن الألسن التي كانت تتبارى وتزهو فخراً أمام الشعوب الأخرى بأنها تملك لغة يكفيها مكانة أنها كلام الله في هذه الدنيا ولغة كل الشعوب عندما ترجع إلى بارئها. ما حدا بنا للتعريج على هذا الموضوع الحساس هو خطبة الجمعة الماضية الصادِعة بالحق عبر جميع منابر الدولة، وفي لغة قوية وواضحة تنذر الأمة التي تكاد تذوب في بحر الأمم الأخرى، من التنازل عن أحد أهم ركائز وجودها وهو حياة لغتها. فالحذر كل الحذر أن تتراجع اللغة العربية في مجتمعاتنا إلى المرتبة الثانية، لأن كل الشعوب المتقدمة تأبى أن تعود لغتها إلى الوراء أمام أي لغة منافسة، وإن كانت الإنجليزية التي أصبحت لغة ثلث سكان الكون بلا منازع. وهذا الأمر لا علاقة له بتعلم لغة الآخرين لأن كل الحضارات البائدة والسائدة كانت تتعامل مع كل اللغات التي تواجدت من حولها حسب قدرات وإمكانات الشعوب على الترجمة بتخصيص رجال مبرَّزين في اللغات الأجنبية، وأما ما يحصل اليوم في واقعنا فهو أمر بعيد عما كان يحدث في الأزمان السالفة. روى لنا أحد الطلبة المبتعثين للدراسة في المملكة المتحدة أنه طلب منه أن يلقي محاضرة في الجامعة حول تخصصه وما وصل إليه من تطور، وعندما نمت إلى علمه قائمة الحضور أصابه شيء من الرهبة فاستشار مشرفه الأكاديمي حول اعتذاره عن إلقاء تلك المحاضرة خشية الوقوع في الخطأ أثناء تحدثه باللغة الإنجليزية أمام الفطاحل في لغتهم. يقول الطالب إنه قد دار حوار لغوي بينه وبين مشرفه من أجل إقناعه بالإقدام وعدم التراجع، فسأله المشرف عن عدد اللغات التي يتحدث بها فأجاب: خمس لغات، فأردف المشرف بقوله: أنت أفضل من كل الحضور لأنهم لا يتكلمون إلا بلغة واحدة وهي نقطة قوة لك وإياك والاعتذار عن اللغة الإنجليزية لأنه ليس المطلوب منك أن تكون شكسبيراً في بلده، وحتى نحن الإنجليز عندما نقرأ لهذا الكاتب الكبير نستخدم القواميس المعاصرة لفهم بعض مصطلحاته الغامضة. وأضاف المشرف الأكاديمي قائلاً: إنه لمن المخجل للمرء ألا يتقن لغته الأصلية، وإن كان متقناً للغات الآخرين، فهذا لا يضيف إلى هويته شيئاً بقدر ما ينتقص منها الكثير. ولا نعرف بعد هذا السر في حماس بعض العرب لتقديم اللغة الإنجليزية على العربية بدعوى التطور ومسايرة العولمة وغيرها من الأعذار.