منذ الصغر ونحن نسمع عن "باريس العرب" كلما سافر أناس إلى لبنان للسياحة أو للتجارة، وبعد أن كبرنا قليلاً أدركنا أن لبنان وفرنسا يذكران كصنوين عندما يرتفع صوت القلم والحريات والأفكار المتلاقحة. أما اليوم فإننا نتذكر جيداً ما آلَ إليه مصير المجلة الغربية المشهورة "ريدرز دايجست" النسخة العربية التي ماتت في لبنان كأحد ضحايا الحروب اللبنانية المتوالية، فحيث يموت الفكر الحُر تموت الشعوب معنوياً قبل أن تذهب إلى مثواها الأخير. صورة لبنان "باريس العرب" تشوهت كثيراً عندما دخلت ديمقراطية الشارع إلى حيز الوجود، ووجود معارضة ممثلة في الحكومة والشارع في آنٍ واحد، وفرض أجندة أحادية بهذه الطريقة العشوائية التي أودت بحياة كثيرين من الأبرياء بصيد القناصة السهل في الساحة المفتوحة على الجميع، بهدف تأجيج الطائفية المفرقة لكل ما هو مجمع عليه من الفكر إلى الفعل الذي يزين أرض السبعين حزباً كما قيل منذ السبعينيات، والتي تعيش في منظر فسيفسائي جميل يراد له التشويه والتشتيت والعودة به إلى الماضي التعيس. يراد للبنان أن يصبح سجناً مغلقاً على رأي المعارضة الحزبية باسم الله، فلو سقطت الحكومة في هذه الأجواء المشحونة فإن النتيجة ستكون لصالح حكم ديكتاتوري توفر بنيته الأساسية نظام الحكم في لبنان الديمقراطية، الذي سمح لهذه النبتة بالنماء لغير باريس الشرق منذ عقود. فـ"باريس3" وضعت كل ثقلها لصالح "باريس العرب"، فجمعت الدول من أجل إحياء المشروع الحضاري للبنان، الذي يراد له الاستباحة من قبل الآخرين وبإصرار عنيد لفرض واقع جديد انطلاقاً من الشارع. فلو كلف هذا المشروع العالم أجمع مئة مليار دولار بدل الثمانية مليارات التي تعهد المجتمع الدولي بها للمساهمة في إنقاذ لبنان من وهدة مفترق الطرق التي يمر بها في هذه الفترة العصيبة من تاريخه السياسي، لساعده نحو الصعود والبروز كمنطقة عربية تلعب دوراً مسالماً لصالح ديمقراطية الشرق الأوسط كجزء من المشروع الأكبر في شرق مشحون بالمنغصات الطائفية أكثر من المنشطات الفكرية السابقة كالقومية والعروبة وغيرها من الشعارات التي اختفت باختفاء أصحابها. "باريس العرب"، حيث بريق الفكر النيِّر ومعلم الحضارة المعطاء، حيث ملتقى الأدب والفكر والسياسة والسياحة لا تقدر بالمليارات، فهي أكبر من هذه الأموال بكثير، فلبنان قسطنطين زريق صاحب أفضل ترجمة للإنجيل على مستوى العالم، ولبنان عمر فروخ المؤرخ المشهور بعلاجه لإشكاليات العصر، ولبنان الشهيد الحريري الذي أخرج "باريس العرب" الغارقة تحت أنقاض الحروب إلى النور من جديد، وقد دفع حياته ثمناً لذلك، فكل هذا وأكثر من ذلك لا يجب أن يذهب سدى فقط لأن الشارع يريد أن يجعل من نفسه المشرِّع الجديد للبنان. إن العالم في "باريس3" قال كلمته وأدى واجبه وهذا كله لا يعفي العرب على وجه الخصوص من تحمل المسؤولية المعنوية والمادية عن ضرورة الحفاظ على وحدة الشعب اللبناني بكل طوائفه، لأن تسلسل الأحداث في العراق والصومال والسودان وفلسطين يدعونا إلى إعادة التفكير في القرارات والمواقف التي يتخذها العرب من واقع مشهود بالتأزم في غير وقته. إن تعامل "باريس3" مع لبنان والوقوف في صف المشروع الحضاري لبناء دولة الحرية والديمقراطية، رسالة واضحة للأطراف التي تحاول صبغ الشارع في لبنان باللون الأحمر بدل لون شجرة الأرز الأخضر منذ الأزل. لا نحب أن تسود لبنان ديمقراطية الشارع، وتجاهل كل سنوات الكفاح السياسي من الحكم المؤسسي البعيد عن تصفية الحسابات الخارجية على حساب الداخل، الذي لم يبرأ بعد من جرح الماضي القريب لـ"باريس العرب".