في أحيان كثيرة يقف القارئ أو الكاتب أو الباحث أو المراقب للأحداث التي تجري على مسرح السياسة الإقليمية، عاجزاً عن فهم حقيقة أبعاد وتوجهات السياسة الخارجية لبوش الصغير وإدارته تجاه منطقة الشرق الأوسط، فبعضهم يرى أن السياسة الأميركية في عهد الإمبراطور الصغير تكيل بمكيالين، وبعضهم الآخر يرى أنها تكيل بأكثر من ذلك في تعاملها مع قضايا مصيرية كثيرة تهدد مستقبل المنطقة، بينما يرى آخرون أن بوش قد اعتنق مبدأ "التقية" في السياسة، فهو يظهر غير ما يُبطن، ويعلن ما لا يعنيه على أرض الواقع، ويتكلم بخِلاف ما يفعل، لذلك فهو يحمل مشروعاً خفياً لصياغة خريطة المنطقة من جديد. ومن المؤكد أن لكل فرقة وجهة نظرها المنطقية، وتمتلك المبررات المقبولة والواقعية لموقفها ورؤيتها للسياسة الأميركية، ولكن أحداً لم يحاول أن يضع أمامه المثلث الشيعي ويسعى إلى فهم العلاقات التي تربط بين أضلاعه من جانب، وبينه وبين السياسة الأميركية التي تظهر وكأنها متضاربة أحياناً من جانب آخر، ويحاول الإجابة بموضوعية عن الأسباب الكامنة وراء اختلاف سياسة بوش الصغير في تعاملها مع كل منها. لذلك نحاول في مقالنا هذا إماطة اللثام عن التعارض الظاهري والتضارب النظري لتعامل إدارة بوش الصغير مع المثلث الشيعي، الذي يقع أحد أضلاعه في العراق، بينما تقع قاعدته في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في حين نجد أن الضلع الثالث يقع في جنوب لبنان. فالسياسة الواضحة لبوش الصغير وإدارته تتمثل في التعاون مع الشيعة العرب في العراق، والقضاء على شوكة الشيعة العرب في لبنان، وإعادة الشيعة الفرس إلى أحضان الإمبراطورية العظمى، وبالطبع كل ذلك من أجل عيون إسرائيل ومصالح الإمبراطورية في منطقة الشرق الأوسط. فسياسة بوش الصغير وزمرته تجاه الشيعة العرب في العراق، ترتكز على التعاون وتنسيق الجهود السياسية والأمنية، وتأمين المصالح المشتركة، بل والعمل على تمكينهم من فرض سيطرتهم على حكم بغداد. وتنطلق هذه المرتكزات من أبعاد عدة؛ من أهمها: الدور الخطير الذي لعبه بعض زعماء الشيعة المتواجدين في المنفى الاختياري أو الإجباري بالولايات المتحدة الأميركية، والذين استطاعوا الاتصال بالمخابرات المركزية الأميركية، وكان لهم الجهد الرئيس في توفير المعلومات "الزائفة والملفقة" التي مهدت للفكر العسكري لغزو العراق، بل والتمهيد له بمؤتمرات أطلق عليها صفة "الوطنية"، والتي لم يكن لها أدنى علاقة بذلك سوى الاسم، واقتحموا العراق على متن الدبابات الأميركية، وكان لهم الفضل في إقناع المندوبين السامين لإدارة بوش الصغير بضرورة التحالف مع الشيعة العرب ليتم لهم تحقيق المهمة، فهم أصحاب الأغلبية على أرض الرافدين، ونجحوا في إقناعهم بأهمية الاتصال بـ"الحبر الشيعي الأعظم" الذي يملك السلطتين الدينية والسياسية على شيعة العراق، ومن خلاله جرى تأمين مناطق الشيعة. ومما زاد من اندفاع الأميركان للتعاون مع شيعة العراق كره أميركا للسُّنة، خاصة البعثيين منهم، لأنهم كانوا وراء استمرار صدام حسين ونظامه في الحكم، وأحد أهم ركائزه في التمرد على الإمبراطورية العظمى، لذلك كان حتماً أن يتم القضاء عليهم، فضلاً عن أن التصريحات المُعلنة لشيعة العراق والمتكررة بضرورة خروج قوات الاحتلال الأميركية، كان يرافقها العمل في الخفاء؛ وأحياناً في العلن تحت سمع وبصر وحماية القوات الأجنبية في التطهير الطائفي لإقصاء السُّنة، وإلحاق أكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية بهم كجزء من الحرب بالوكالة التي تشنها طهران ضد السُّنة، وللانتقام منهم نتيجة لمعاناة استمرت قروناً، وفي الوقت ذاته ضمان فرض سيطرة الشيعة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي العراقية بالتنسيق مع وكلاء بوش الصغير في العراق لفرض الأمر الواقع. أما سياسة العداء التي يعلنها بوش الصغير بمناسبة ومن دون مناسبة، ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فتخفي وراءها مصالح استراتيجية مشتركة تسعى الإدارة الأميركية إلى أن تنسقها مع إحدى دول "محور الشر"، والشر المقصود هنا هو "العرب السُّنة" الذين قام نسلهم بكارثة الحادي عشر من سبتمبر التي لن تغتفر مهما حدث، وخطيئة الإعلان عن مناهضتهم للإمبراطورية العظمى ووجودها في الأراضي العربية. أي إن المقصود إدراكه هو أن طهران عضو في تحالف أميركي يقف ضد "الشر السُّني العربي"، وليست إيران الشيعية الفارسية المقصودة بـ"الشر". لذلك فإن التمرد الإيراني ضد "الشيطان الأكبر"، لا يعني في حقيقة الأمر كره طهران لبوش الصغير وإدارته والعمل على الوقوف ضده وتهديد مصالحه، بل هو لا يخرج عن كونه أحد أوراق الملالي في عملية المقايضة أو المساومة التي يقوم بها عادة تجار "البازار" للحصول على أكبر قدر من المكاسب أو التقليل من الخسائر، خاصة أن إيران هي الرابح الأكبر حتى الآن من كل الأنشطة الأميركية العسكرية وتحركاتها السياسية، سواء في أفغانستان أو العراق. فإذا استطاع ملالي إيران التوصل إلى مبتغاهم من عملية إدارة "البازار السياسي" مع "الشيطان الأكبر"، وضمنوا عدم وجود تخطيط للإطاحة بهم، وجرى الاعتراف بالجمهورية الإسلامية الإيرانية كقوة إقليمية كبرى في المنطقة، فإن أميركا ستصبح بين ليلة وضحاها "الملاك الأعظم"، الذي ضحى بالروح والدم والمال في سبيل أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط وتطهيرها من "الشياطين السُّنة" و"الأبالسة العرب" الإرهابيين. ويجب ألا نهتم كثيراً بعملية العقوبة الأخيرة على إيران فتأثيرها محدود للغاية على طهران التي تعودت على العقوبات، وهي جزء من أوراق مساومة بوش الصغير. أما شيعة لبنان العرب فإن مصيبتهم الكبرى أنهم يهددون أمن "دلوعة" الإمبراطورية العظمى، ويعكرون صفو شعبها "المسالم" "والمسكين" و"المستأنس" والسامي الذي يعيش في حاله ويحاول بكل جهده إقناع الجبابرة "الإرهابيين" الفلسطينيين بإيقاف "آلتهم الحربية" الرهيبة المنفلتة التي تغتال مواطنيهم كل لحظة، وهجومهم المستمر الذي لا يهدأ بجميع أنواع الأسلحة، ولا يفرق بين طفل وشيخ، وتساندهم قوة عربية هائلة "لا يغلبها غلاب". لذلك فإن بوش الصغير وإدارته يدركون تماماً أن الدولة الفارسية لا تهتم بمصير الشيعة العرب سواء في لبنان أو العراق، والواقع أن "البازار" يستخدمهم كأوراق للمساومة، لذلك فإن الضغط الأميركي لتحييد "حزب الله" اللبناني أو تجريده من سلاحه، لا يعني أن طهران ستضحي بمصالحها وطموحاتها من أجله، بل العكس ستقايض عليه وتبيعه في أول فرصة، خاصة إذا انتهت صلاحيته. وإذا كان البعض يتغنى اليوم بالتحالف الإيراني مع الحزب ويشيد بالدعم المالي والعسكري الذي تقدمه طهران له، فعليه أن يتذكر ما يحدث الآن في لبنان بعد أن أصبح سلاح الحزب موجهاً بطريقة غير مباشرة لصدور أشقائه من اللبنانيين من السُّنة والمسيحيين، وينظر إلى تداعيات هذا الوضع على مستقبل الدولة في لبنان، الخاسر الأكبر الذي سيدفع ثمن هذه المغامرة. من المؤكد أن العلاقات السياسية ليس فيها صداقة ومحسوبية وتحالفات، ما عدا العلاقة الشاذة والاستثنائية التي تربط أمن الإمبراطورية بأمن الدولة العبرية، كما لا توجد خواطر وتضحيات بلا ثمن، فالمصالح وحدها هي التي تجمع أو تفرِّق بين الدول، وهي أساس الصداقة أو العداء بينها، لذا فإن العلاقات السياسية الخارجية لبوش الصغير وإدارته لا تشذ عن هذه القاعدة، ومن ثم فإن تقاربها أو معاداتها لـ"الشيعة" من الفرس أو العرب مرتبطة بمدى المساهمة في تحقيق مصالح الإمبراطورية أو عرقلتها سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبات الأمر رهن هذه المصالح، كما أضحت الرؤية الأميركية أسيرة أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ولكن الغريب في ذلك كله موقف العرب من كل الديانات والأعراق، فقد أصبحوا جميعاً في "جوانتانامو"، لا فرق بين المعتقلين داخله، أو الموجودين خارجه، لسبب واضح أنهم جميعاً فقدوا قدرتهم على الاختيار، وحريتهم في الفعل واتخاذ القرار، واستسلموا لمعتقليهم، وتسلحوا بقضبان سجنهم ليقاتل بعضهم بعضاً، لإرضاء جلاديهم.. فأين المفر؟