التحول الديمقراطي في العراق... أعباء التاريخ وعجز المؤسسات!
تحرير العراق من الاستبداد، وبناء الديمقراطية ودولة القانون، وتحقيق الإصلاح السياسي الشامل... "هدف" تصدر قائمة ذرائع الحرب الأميركية على العراق عام 2003، لتتعامل واشنطن مع عراق ما بعد صدام حسين، انطلاقاً من نموذج ذهني مسبق ودون اعتبار للهوية العراقية وجذورها الضاربة في التاريخ. من هذا الاختزال النمطي، جاءت حالة التخبط التي آل إليها المشروع الأميركي في العراق، ومنه أيضاً جاء التأكيد المنهجي في كتاب "التحول الديمقراطي في العراق"، لمؤلفه الدكتور عبدالوهاب حميد رشيد، على المواريث التاريخية والأسس الثقافية والمحددات الخارجية، لأي بناء ديمقراطي في العراق!
تتوزع مادة الكتاب الذي نعرضه هنا، في تسعة فصول تناولت إشكالية الانتقال الديمقراطي وشروطه اللازمة في العراق، حيث قدم المؤلف في حيز يناهز 500 صفحة، تحليلاً متعمقاً لظروف البيئة الاجتماعية العراقية على ضوء المتطلبات التي يفرضها التحول الديمقراطي، بالعلاقة مع عوامل بنيوية؛ كالمواريث التاريخية- الثقافية، والبنية المؤسسية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية)، والمحددات الإقليمية والدولية، وأخيراً المجتمع المدني الذي هو حصيلة العملية الديمقراطية. وفي ذلك العرض التحليلي يغلب التاريخ كمادة لاستخلاص المغزى والفكرة. فحاضر العراق يمتد في بيئة اجتماعية تعود إلى حضارة وادي الرافدين قبل خمسة آلاف عام، وهي الحضارة التي يقول المؤلف إنها تركت آثارها في الحضارات البشرية اللاحقة والمعاصرة؛ فالعراقيون الأوائل هم أول من اكتشف الزراعة والكتابة، وبنوا أول مجتمع سياسي منظم، وأقاموا نظام الملوكية، وطبقوا نظرية الحق الإلهي، وبنوا دولة الوحدة الوطنية، وأهدوا البشرية أول قانون منظم للحياة الاجتماعية، وكانت الأسرة الأبوية هي السائدة لديهم، كما هو حال النظام السياسي أيضاً.
لكن بعد سقوط آخر معقل لحضارة وادي الرافدين (بابل 539 ق.م)، على يد الفرس "الأخمينيين"، تعرض العراق لأشكال من الحكم الأجنبي على مدى أحد عشر قرناً قبل الفتح الإسلامي. ويفرد المؤلف فصلاً ضافياً للحضارة العربية الإسلامية، شارحاً ثلاث محطات أساسية؛ أولاها "العراق بين السقوط والتحرير" وفيها يوضح أنه بعد تحرير العراق من "الساسانيين"، أقام الفاتحون العرب مدن الكوفة والبصرة وواسط، ثم بانتقال الخلافة إلى العراق شيدت بغداد، وأدت هذه المدن دوراً اجتماعياً وحضارياً مهماً، عزز القاعدة البشرية وهيأ أرضية النشاط الثقافي. وفي اللحظة الثانية، وهي "الإسلام والصعود الحضاري"، شهد العراق ازدهاراً خلال العصور العباسية الأولى، أدى إلى ظهور أنواع عديدة من العلوم الإنسانية والطبيعية.
ويلاحظ المؤلف أنه رغم الازدهار الذي عرفه العراق بين القرنين الأول والرابع الهجريين، فإن مبادئ الشورى والاختيار والعدل وفق الشريعة الإسلامية، لم يؤخذ بها إلا نادراً، ويرتبط بذلك غياب المؤسسات التي تنظم وتقنن هذه المفاهيم وتطبقها، مما عزز السلطة الفردية للحاكم، مقابل سكان ظلوا رعايا لا مواطنين. هكذا شكلت سيطرة "البويهيين"، منذ القرن الرابع الهجري، بداية لحظة الانحدار في منحنى التطور العباسي، وصولاً إلى سقوط الخلافة عام 1258م، ثم وقوع العراق تحت السيطرة العثمانية عام 1534. وقد شهدت هذه الفترة صراعاً فارسياً- تركياً على العراق، صحبه انقسام طائفي حاد. ومع حلول القرن الثامن عشر، تراجع عدد سكان العراق إلى نصف مليون نسمة، مقارنة مع 30 مليون نسمة في عصر الازدهار العباسي، وانتعشت سلطة القبائل الرحل، وانتقل زمام الحكم من الحكومة إلى أيدي زعماء القبائل.
لكن انطلاقاً من مطلع القرن التاسع عشر، بدأ تاريخ حضاري جديد يلخص المؤلف أهم مؤشراته بالقول: "أخذ المجتمع العراقي يتحول في اتجاهاته الفكرية من الشرق (إيران)، إلى الغرب (مصر والشام)، وأخذت رياح التحديث تهب من جهة الغرب". لكن هل محاولات البناء الديمقراطي، بداية من عهد الملكية التي قامت بموجب دستور عام 1925 وحتى الآن، أخذت في الاعتبار ذلك الإرث الاجتماعي والثقافي، وما ارتبط به من خبرات تاريخية غنية؟ يقول المؤلف إن ممارسات العهد الملكي أدت إلى الإضرار الشديد بقيم الديمقراطية ومبادئ الإدارة والكفاءة والنزاهة والمبادرة، بل "إن النظام الملكي العراقي جسد حكم مجموعة صغيرة من العائلات المعروفة... في سياق احتكار السلطة والثروة"، وعليه جاءت بنية الدولة الفتية بعيدة عن الليبرالية السوية في ظروف مليئة بالدسائس والمؤامرات، لتنتهي بثورة 14 يوليو 1958. إلا أن مثالب قاتلة رافقت العهد الجمهوري منذ بدايته وحتى سقوطه ووقوع البلاد تحت الاحتلال الأميركي؛ وهي المثالب التي يجملها المؤلف في مجالين مترابطين: أولهما إلغاء المؤسسات النيابية لتحل محلها سلطة الفرد- الطاغية. وثانيهما الإلغاء السريع لـ"حلف بغداد" مما قاد إلى انكشاف ظهر البلاد خارجياً لتصبح مسرحاً لمؤامرات ودسائس غذتها قوى إقليمية ودولية. ويكشف المؤلف خطأ آخر في بنية الدولة العراقية المعاصرة، وهو الزج بالمؤسسة العسكرية في إدارة الشؤون الداخلية منذ الثلاثينيات، وذلك بتشجيع من النخب السياسية ذاتها. وبذلك بدأ الجيش يزداد سطوة في المجال السياسي، ليكون القائد الذي يسير البلاد حتى سقوط الدولة العراقية في أبريل 2003.
ورغم اليافطة الديمقراطية للغزو، فإن المؤلف يرى أن سلطة الاحتلال الأميركي تصرفت بما يشير إلى تغييب الشعب العراقي، وقد أعطت أولوية مطلقة لمشروعها، وهو "الليبرالية" (حرية الفوضى) وتكريس الهزيمة، على المشروع العراقي، وهو الاستقلال الوطني والتنمية والدستور والانتخابات النزيهة... فكانت النتيجة "حكومة طائفية عرقية، قدمت مسودة دستور مستنسخة من قانون المحتل". وفيما يرى المؤلف أن الولايات المتحدة قوضت الدولة العراقية، وأحدثت انقساماً وطنياً واسعاً داخل العراق، فهو يشدد على أن الديمقراطية تتطلب وجود الدولة كشرط مسبق، كما يشكل الإجماع العام على العيش المشترك شرطاً لازماً لها. إضافة إلى رزمانة من الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، في مجتمع تاريخي عريق كالمجتمع العراقي، وهو بطبيعة الحال ما لم يكن محل تقدير من القائمين الأميركيين على إدارة "الملف العراقي"!
محمد ولد المنى
الكتاب: التحول الديمقراطي في العراق
المؤلف: د. عبدالوهاب حميد رشيد
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
تاريخ النشر: 2006