مرة أخرى يواجه لبنان أزمة سياسية تقف فيها منظمتان شيعيتان مدعومتان من قبل إيران وسوريا هما "حزب الله" وحركة "أمل" ومعهما فصيل مسيحي يقوده "ميشيل عون" ضد مجموعات مسيحية وسُنية ودرزية مدعومة من قبل الغرب، وتدعم بدورها حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة. والحرص على ذكر الداعم الأجنبي الذي يقف وراء كل فريق محلي عند القيام بتعريف ذلك الفريق يكشف عن المشكلة الجوهرية التي يعاني منها لبنان. ويمكن أن نستخدم اسماً بديلاً للمشكلة وهو "المرض اللبناني" الذي تتمثل أعراضه في اعتماد الفرقاء السياسيين اللبنانيين على جهات أجنبية بشكل دائم للحصول على دعم يمكِّنهم من التفوق على منافسيهم، بدلاً من السعي لمعالجة جوانب الظلم وعدم العدالة التي تمثل لب تلك الخلافات. ومن الطبيعي أن تكون أي مزايا يتم الحصول عليها قصيرة الأمد سواء بالنسبة للطرف اللبناني، أو بالنسبة للطرف الأجنبي الداعم له، وهو ما يؤدي في غالبية الأحوال إلى زيادة حجم المعاناة الشعبية، وزيادة درجة عدم استقرار الأوضاع في لبنان، وبالتالي في الشرق الأوسط. اللبنانيون وحدهم هم القادرون على معالجة أنفسهم من هذا المرض، ولكن الأمر يستلزم في نفس الوقت قدراً من المساعدة من الجهات الأجنبية، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة وفرنسا، التي يجب أن تعمل على تحقيق مصالحها الذاتية بشكل أكثر استنارة. فمثل هذه الاستنارة هي التي تستطيع أن تجعل الولايات المتحدة تدرك أن أفضل طريقة يمكن أن تحقق بها تلك المصالح في لبنان لا تتمثل في القيام بعزل "حزب الله" أو تهميشه بل إدماجه بشكل أكبر في نسيج الدولة اللبنانية سواء من الناحية السياسية والاجتماعية والعسكرية. الكثيرون في لبنان ينظرون إلى تأييد الحزب لسوريا، على أنه وسيلة تكتيكية من جانب "الحزب" لتأمين الإمدادات اللوجستية القادمة من إيران أكثر من كونه موقفاً من مواقف التبعية لدولة جارة. والحقيقة أن المراحل الأخيرة من الحرب التي خاضها الحزب في الصيف، أتاحت فرصة عابرة للحكومة اللبنانية لتحقيق المزيد من السيطرة على الحزب. فالمعاناة التي تسبب فيها الحزب للمواطن اللبناني بسبب العملية التي أقدم عليها وكانت سبباً في نشوب القتال في ذلك الوقت، جعلت زعيم الحزب حسن نصرالله يدرك أنه مضطر إلى تقديم تفسيرات ومبررات للشعب اللبناني. وسرعان ما اعترف نصرالله بأن تلك العملية كانت خطأً، وأنه يرغب في وقف إطلاق النار. وعندما تحقق وقف إطلاق النار من خلال اتصالات السنيورة السياسية مع أطراف أجنبية، فإن ذلك وضع رئيس الحكومة في موقف قوي نسبياً تجاه الحزب. وهذا الوضع كان يمكن السنيورة في ذلك الوقت من أن يطلب من "حزب الله" أن يظهر المزيد من الدلائل على أنه يقبل بسيطرة جزئية على الأقل على مليشياته من جانب الحكومة اللبنانية. من ناحية أخرى، فإن المقاومة التي أبداها "الحزب" جعلت قطاعاً كبيراً من اللبنانيين بما فيهم السُّنة يرغبون في الإبقاء على المنظمة الشيعية كقوة تعمل في خدمة كل لبنان. والعاملان معاً كان يمكن أن يمنحا لبنان زخماً متجدداً، يمكنه من صوغ ميثاق أو عهد وطني جديد. وكان بإمكان السنيورة في ذلك الوقت أن يقول إنه في مقابل منح الشيعة المزيد من التمثيل، فإن الحزب يجب أن يقبل بمزيد من السيطرة للدولة على ميليشياته العسكرية، التي ستقوم الدولة بإيجاد وظيفة جديدة لها مثل تكليفها بمهام حرس الحدود اعتماداً على خبرتها السابقة في جنوب لبنان مع وضعها تحت إمرة قائد عسكري من القوات المسلحة اللبنانية. وعلى الرغم من ضياع هذه الفرصة، فإن التجربة التي مر بها الحزب خلال الصيف، جعلت قائده أكثر إدراكاً لحقيقة أنه إذا ما أراد التأثير على سياسات الدولة، فإنه يجب أن يراعي في الوقت نفسه مصالح الجماعات الدينية والفصائل السياسية الأخرى في البلد. باختصار يمكن القول إنه عندما يتم منح "حزب الله" نصيباً أكبر في الحياة السياسية اللبنانية، فإنه سيصبح بمرور الوقت أكثر "لبنانية"، وهذا ما يقودنا إلى الحواجز التي تقسم وسط مدينة بيروت في لحظتنا الراهنة إلى قسمين وإلى فريقين متمايزين. والفريقان المتمايزان ينخرطان حالياً في حملة من الاتهامات المتبادلة، ويغذيان الأوهام التي تجعل كل فريق يعتقد أنه يمكن أن يحقق أهدافه من خلال المواجهة. ولو تطورت الأمور إلى حرب أهلية، فإن تلك الحرب ستكون بمثابة الكارثة ليس فقط للبنانيين، ولكن أيضاً للداعمين الأجانب الدائمين وعلى الأخص فرنسا والولايات المتحدة، علماً بأن الأخيرة بالذات ستكون هي أكبر الخاسرين على ضوء الظروف الراهنة السائدة في الشرق الأوسط. يجب أن يكون معلوماً لأميركا -وإسرائيل كذلك- أن الدولة اللبنانية الموحدة القادرة على بسط السيادة على شعبها وإقليمها، هي أكثر ما يمكن أن يساعد على تحقيق مصالحهما في لبنان، وبالتالي في المنطقة. خصوصاً وأنهما تعرفان الآن أن "حزب الله" لا يمكن إزالته وأن نفوذه يصعب تقليصه. لذلك فإن الطريقة الوحيدة لتعزيز وضع الحكومة اللبنانية وتحويلها إلى حكومة مسؤولة عن أعمالها هو تشجيع إدماج "حزب الله" تدريجياً، وبرفق في النسيج السياسي والاجتماعي والعسكري للدولة. كيف يمكن للولايات المتحدة أن تساعد على تحقيق ذلك؟ تستطيع ذلك بعدة طرق: الأولى، من خلال التخلي عن الحديث عن زيادة حجم القوة متعددة الجنسيات في جنوب لبنان، وإقناع الأوروبيين أن يفعلوا نفس الشيء. الثانية، من خلال إنهاء حروب الوكالة أو الحروب التي تتم في المنطقة بالنيابة عن قوى أجنبية. وهناك طريقة ثالثة وهي تحقيق التزام أميركي أكثر مصداقية بحل مشكلات لبنان، من خلال التركيز على مساعدة الأطراف المتنازعة على التوصل إلى معادلة معقولة لمعالجة قصور التمثيل الشيعي في معادلة السلطة في لبنان، مع تحقيق قدر أكبر من سيطرة الحكومية على قدرة "حزب الله" على شن الحرب. روبرت جرنيير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مدير سابق لمركز مكافحة الإرهاب في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب سابق لخدمة "نيويورك تايمز"