حوار الإمبراطور البيزنطي والعالِم الفارسي... خطأ مضاعف
ترك البابا المقدمة الطبيعية والجيدة التي عرضناها في المقال السابق لينتقل إلى موضوع غريب عن مجال خطابه، موضوع يثير انتباه القارئ و"الرائي" لكونه قد أقحم في سحنة الخطاب إقحاماً، مما يجعله يبدو للناظرين كوَرَم على أحد الفكَّين.
وقبل أن نعلق على محتوى "الورم" وعلى طبيعته نترك البابا يواصل إلقاء خطابه. قال، مباشرة بعد المقدمة التي اطلعنا عليها في المقال السابق:
"تذكرت كل هذا (يقصد ذكرياته الجامعية المذكورة قبل) في الأيام القليلة الماضية عندما قرأت قسماً من حوار نشره البروفسور تيودور خوري من جامعة مونستر Münster، حوار كان قد جرى –ربما عام 1391 في الثكنات الشتوية لمدينة أنقرة- بين الإمبراطور البيزنطي الذي كان على نصيب من المعرفة، مانويل الثاني باليولوغوس Paleologus وبين عالم فارسي. وقد دار الحوار حول موضوع المسيحية والإسلام، وحقيقة عقيدة كل منهما. والغالب أن الإمبراطور نفسه هو الذي سجل هذا الحوار، خلال حصار القسطنطينية ما بين 1394 و1402، وهذا ما يفسر كون آرائه هو جاءت أكثر تفصيلاً من أجوبة محاوره العالم الفارسي".
نفتح هنا قوسين للتذكير بالظرف التاريخي الذي جرى الحوار في إطاره. يتعلق الأمر بحصار القسطنطينية من طرف العثمانيين. ومعلوم أن هذه المدينة التي كانت عاصمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية (أو البيزنطية نسبة إلى بيزنطة عاصمتها، والبيزنطيون هم "الروم" بالاصطلاح العربي الإسلامي)، قد جددها قسطنطين الأول عام 335 ميلادية فسُميت باسمه (القسطنطينية)، وكانت هذه الإمبراطورية قد انشقت عن الإمبراطورية الرومانية التي كانت عاصمتها روما. هذا وقد حاول المسلمون فتح القسطنطينية مرات عديدة ولكن لم يتمكنوا من ذلك، بسبب موقعها الجغرافي وتحصيناتها، إلا زمن السلطان العثماني السابع محمد الثاني، وذلك سنة 1453، فلقب بـ"محمد الفاتح". هذا وقد جرت محاولة العثمانيين الأولى لفتح القسطنطينية في عهد السلطان بايزيد الذي حاصرها عام 1393 غير أنه اضطر إلى تخفيف الحصار عنها لينصرف إلى مواجهة المغول الذين كانوا قد اكتسحوا بلاده بقيادة تيمورلنك، فدارت بينهما معركة أنقرة التي أسر فيها بايزيد وتوفي عام 1402. وواضح أن الحصار الذي يشير إليه البابا والذي حدد زمنه ما بين 1394 و1402 هو الذي تم زمن بايزيد الذي كان مرابطاً بأنقرة، قبل أن يضطر لترك الحصار والذهاب لمواجهة جيوش تيمورلنك.
وما يهمنا إبرازه هنا هو أن الحوار الذي تحدث عنه البابا جرى بين الإمبراطور البيزنطي والرجل الفارسي المسلم زمن الحرب. وهذه الحرب لم تكن حرباً دينية، فلقد كان الإمبراطور وشعبه مسيحيين، ولم يكن من الجائز في الشرع الإسلامي تحويلهم إلى الإسلام بالسيف، بل كان المطلوب منهم شيء واحد، هو الاعتراف بسلطة الدولة الإسلامية (وهي هنا الدولة العثمانية) والبقاء في أرضهم على دينهم مع دفع "جزية" هي بمثابة الضريبة التي يدفعونها لدولتهم. فالحرب التي جرى الحوار في ميدانها حرب سياسية. والعنف المرافق لها كان عنفاً من سلطة سياسية وليس من طرف دعوة دينية. والحرب السياسية لم تكن خاصة بالمسلمين وحدهم فقد خاضها المسيحيون على عهد الإمبراطورية الرومانية بفرعيها الغربي والشرقي، كما خاضتها وتخوضها دول العالم وأممه منذ بداية التاريخ البشري. فهل سنحمل المسيحية كدين، مسؤولية حروب أوروبا الكثيرة المتعددة، الصليبية منها، والدينية، والاستعمارية؟
إذن، لا شيء يبرر اتهام البابا للإسلام باستعمال السيف في نشر عقيدته بحجة حصار المسلمين للقسطنطينية. وإذا كان وضع الإمبراطور كملك يعاني هو وبلاده من حصار دولة إسلامية يبرر من الناحية السيكولوجية على الأقل ربطه بين الإسلام والعنف، مع محدودية معرفته بعقيدة الإسلام وشريعته، فنحن لا نرى ما يبرر اتخاذ البابا لأقوال الإمبراطور حجة على الإسلام، سوى أن تكون معرفته بالإسلام لا تتعدى حدود معرفة الإمبراطور.
لنغلق القوس ولنترك البابا يُكمل ذكراه لِما قرأه عن حوار الإمبراطور مع العالِم الفارسي المسلم. قال:
"لقد تناول هذا الحوار بتفصيل بنية العقيدة كما هي في كل من الإنجيل والقرآن، وبكيفية خاصة صورة الله وصورة الإنسان في كل منهما. وبطبيعة الحال كان لابد أن يتعرض الحوار مرات عديدة للعلاقة بين ما كان يطلق عليه "قوانين" أو "نواميس الحياة" الثلاثة، (الشرائع الثلاثة) يقصدون بذلك: العهد القديم (التوراة)، والعهد الجديد (الإنجيل)، والقرآن".
ويضيف البابا قائلاً: "ليس في نيتي مناقشة هذه المسألة خلال هذه المحاضرة، أريد فقط أن أتحدث عن نقطة واحدة؛ ومع أنها هامشية بالنسبة لمجموع الحوار فإنني أجدها ذات أهمية خاصة في موضوع "الإيمان والعقل"، وبالتالي صالحة لأتخذ منها نقطة انطلاق لتأملاتي في هذا الموضوع".
ويواصل البابا خطابه فيقول: "تناول الإمبراطور، في المناظرة السابعة التي نشرها البروفسور خوري، مسألة الجهاد (في الإسلام)، ولم يكن الإمبراطور ليجهل أن السورة رقم 2 (البقرة) تقول في الآية التي رقمها 256 "لا إكراه في الدين". وحسب ذوي الاختصاص في الموضوع فإن هذه السورة هي من أوائل السور (كذا!)، وترجع إلى وقت لم يكن فيه محمد (عليه الصلاة والسلام) قد أصبح صاحب سلطة بل كان ما يزال معرضاً للتهديد. ومما لاشك فيه أن الإمبراطور كان، على معرفة بالأحكام التي وردت فيما بعد مفصلة في القرآن، وتتعلق بالحرب المقدسة (الجهاد). وهكذا، ودون أن يدخل الإمبراطور في تفاصيل مثل تلك التي تتعلق بالفرق في المعاملة بين الذين لهم "كتاب" والذين هم "كفار" فاجأ محاوره الفارسي بأسلوب لا يخلو من حدَّة، فطرح عليه سؤالاً حول المسألة المركزية المتعلقة بالعلاقة بين الدين والإكراه بكيفية عامة، فقال : "أرني إذن ما الذي جاء به محمد من جديد؟ إنك لن تجد غير أمور شريرة ولاإنسانية، مثل ما أمر به من استعمال السيف لنشر العقيدة التي جاء بها".
ويضيف البابا: "وبعد أن طرح الإمبراطور هذا السؤال بمثل هذه الوضوح أخذ يشرح بالتفصيل الأسباب التي تجعل نشر العقيدة بالقوة عملاً غير معقول، لأن العنف يتنافى مع طبيعة الله ومع طبيعة الروح. قال : "الله لا يحب إراقة الدماء، كما أن عدم اعتماد العقل في التصرف شيء يتنافى مع طبيعة الله. إن الإيمان منبعه الروح وليس الجسد. وكل من يريد أن يحمل الناس على الإيمان يجب أن يمتلك القدرة على الكلام المقنع والاستدلال الصحيح، ويتجنب العنف والتهديد. فمن أجل إقناع نفس عاقلة لا حاجة إلى سواعد قوية ولا إلى أي سلاح كيفما كان، ولا إلى أي نوع من أنواع التهديد بالقتل".
ويعلق البابا على ذلك بالقول: إن القول الفصل في هذه الحجة الموجهة ضد استعمال العنف في الدعوة الدينية هو التالي: إن عدم اعتماد العقل في التصرف شيء يتنافى مع طبيعة الله".
تلك هي الفقرات التي أثارت المسلمين، فقامت احتجاجات، واتُخذت مواقف، وطولب البابا بالاعتذار؛ غير أنه لم يعتذر، وإنما كرر القول بأن خطابه أسيء فهمه، وأنه لم يقصد الإساءة إلى الإسلام. ودون أن نكرر ما قيل في الرد عليه، وبعيداً عن محاكمة نواياه، فإننا لا نملك إلا أن نلاحظ أن الحبر الأعظم ارتكب خطأ مضاعفاً:
فمن جهة لابد أن يتساءل المرء: لماذا اختار البابا أن يقحم في خطابه الجامعي الأكاديمي الديني عبارات صدرت من إمبراطور بيزنطي في القرون الوسطى تتهم رسول الإسلام بالأمر باستعمال السيف في نشر الدعوة، وأن يتجه بهذه العبارات، بطريقة "إياك أعني واسمعي يا جارة" إلى مخاطب بعينه هو العالم الإسلامي؟ نعم هناك عنف يمارس باسم الدين في بعض أنحاء العالم الإسلامي، ولكن هل هو عنف من أجل نشر دعوة الإسلام أم أنه رد فعل ضد أنواع من التسلط والاحتلال كما في فلسطين والعراق؟
ومن جهة أخرى لماذا احتكر البابا للمسيحية وحدها التصريح بأن الفعل الذي لا يجيزه العقل مخالف لـ"طبيعة الله"، وفي القرآن ما لا يحصى من الآيات والعبارات التي تحث، بل توجب اعتماد العقل في الفكر والسلوك؟ وهل كان ما أخذته المسيحية من العقلانية اليونانية أكبر مما أخذه المسلمون، فلاسفة ومتكلمين وعلماء وفقهاء؟
سؤالان لابد من إلقاء ما يكفي من الأضواء عليهما خدمة للحقيقة، وليس رداً على البابا. لكن لابد من القول إن تعرضه لهاتين المسألتين بالطريقة التي تعرض بها لهما خطأ ما كان يليق به أن يغامر بارتكابه وهو "الحبر الأعظم"، رجل المواعظ والطقوس المعروفة!
(ملاحظة: حصل خطأ مطبعي في المقال السابق إذ وردت كلمة "اللاهوت" في الفقرة الثالثة من الأخير مكان كلمة "الله"، في الجملة التي تبتدئ بقول البابا: "إن جامعتنا تنطوي على شيء غريب ..."، فوجب التنبيه للأمانة العلمية، علماً بأن حاكي الكفر ليس بكافر).