نبوءة راسبوتين
من المجهول جاء قس ليس له من الرهبنة إلا مسوح الكهان ومسبحة، وتحت الرداء خمر وعربدة، ولكن لحظات الانهيار التاريخية، وظروف الحرب، ومرض ألكسي ابن القيصر بالناعور، وضربة حظ، وشيء من غرائب الأحداث... دفعت هذا الرجل إلى واجهة الأحداث؛ فكان ملك الموت قابض الروح للإمبراطورية الروسية.
وقد سجل هذا الوغد في التاريخ أنه خطَّ إلى آخر قياصرة روسيا (نيقولا الثاني) هذه النبوءة الغريبة يقول فيها: "أكتب رسالتي هذه لأتركها برهاناً لي في مدينة القسيس بطرسبورغ، وإني لأشعر أني مفارق هذه الحياة، قبل اليوم الأول من شهر يناير، وأتمنى أن يدرك كل الشعب الروسي، وجميع الأطفال الروس والتراب الروسي العطر، ما يجب أن يدركوه؛ إذا ما قتلني إخوتي من فلاحي روسيا، فلا خوف عليك أيها القيصر، وسيبقى عرشك حاكماً، ويا أيها القيصر لا تخش على أطفالك شيئاً، فإن لهم حكم روسيا لمئات السنين. ولكن إذا اغتالني أفراد العائلة المالكة والنبلاء، وأهدروا دمي، فسوف تظل أيديهم ملطخة بدمي، ولن تغسلها السنوات الخمس والعشرون القادمة، ولسوف يَهْجرون ويُهَجَرون من روسيا، تاركين الأخ يقتل أخاه، ولن يكون للنبلاء مكان في البلاد لخمس وعشرين سنة قادمة. يا قيصر الأرض الروسية: إذا ما سمعت مناديا ينبئك بمقتلي؛ فعليك أن تعرف التالي: إن كان قاتلي من أهليك، فلن يبق منك ومن ذريتك أحد حياً، في سنتين بعد موتي، وسيكون قاتلك شعبك الروسي. إنني أرحل وفي داخلي أمر الهي؛ أن أخبر القيصر الروسي بالذي عليه فعله بعد رحيلي. توخ الحكمة فيما أنت فاعل ومقدم عليه، وترقب صدى ذلك في نفوس رعاياك. عليك بسلامتك، وأخبر من حولك من الأقرباء، أني أشاطرهم بقاءهم بدمي. إنني مغادر الدنيا، ولم أعد من أحيائها فصلِّ لأجلي. صلِّ وكن قوياً، واعتن بعائلتك المباركة... غريغوري".
هكذا كان نص الوصية التي تركها خلفه الراهب الروسي القادم من سيبيريا "جريجوري بيفموتش"، والذي اشتهر في بلاط القيصر نيقولا الثاني، آخر الأباطرة الذين حكموا روسيا قبل الثورة البلشفية باسم "راسبوتين".
وتحققت كامل النبوءة. فمات راسبوتين قتيلاً على يد "يوسبوف" أحد أعضاء العائلة المالكة، في ليلة التاسع والعشرين من شهر ديسمبر من عام 1916. ثم تم القضاء على العائلة المالكة بكاملها في (كاترينبورج) عام 1918. واندلعت حرب أهلية شرسة بين الروس البيض، وفي صفوفهم النبلاء والطبقة الأرستقراطية من العهد القديم، وبين الشيوعيين الحمر، مات خلالها الملايين، وهربت طبقة النبلاء، تاركة روسيا لأكثر من خمس وعشرين سنة. ومات خلال أشهر من الحرب العالمية الأولى سبعة ملايين شاب.
وكانت تلك النبوءة هي الأغرب من نوعها، وهي تفوق الخيال، وعندما كان يتمشى "الوغد" بمحاذاة نهر "النيفا" كان يقول: "إني أراه ممتلئاً بدماء الدوقيين والنبلاء". وهي نبوءة لما حدث بعد عام من قتله.
وكان راسبوتين قد كتب لعائلته من قبل أنه يرى الموت الوشيك يقترب منه.
بعدها خط بيده إلى العائلة المالكة هذه النبوءة الغريبة التي تحققت بالكامل، في تصادف ملفت للنظر، وحس نفاذ لرؤية ولادة الأحداث العظام من رحم التاريخ، أي الأحداث التي ولدت في تلك الأيام كما خلدها فيلم "عشرة أيام هزت العالم".
ويقول عنه "كولن ولسن" الذي كتب عنه كتاباً كاملاً بعنوان: "راسبوتين وسقوط القياصرة"؛ إن أغلب رموز التاريخ الحديث "عجزت أن تثير عن شخص هذا الكم الهائل من الأدب الحسي واللاواقعي، كما أثاره غريغوري راسبوتين"!