مغامرات مستثمر كويتي... في سماء اليمن!
بغض النظر عن علاقة مدينة عدن اليوم، والتي كانت عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، أو اليمن الجنوبية، بعد استقلالها عام 1967، بالكلمة الواردة في النصوص الدينية، فإن المدينة والدولة برمتها، أصبحتا بعد الانقلاب اليساري عام 1969، مكاناً خصباً للتجارب الاشتراكية والماركسية في العالم العربي. احتلت بريطانيا ميناء عدن عام 1839 من خلال شركة "الهند الشرقية"، وكان هذا الميناء أثمن المرافق الحيوية في البلاد، لسعته وعمق مياهه.
نورد قصة طريفة، بل مخيفة، لمستثمر كويتي، لبى والده نداء الاستثمار في البلاد العربية، فوضع ماله في مصنع للمشروبات الغازية، مشتركاً مع أحد الملاك المحليين. وبعث ابنه للاطمئنان على الحال. فلنستمع إليه وهو يروي قصته ضمن قصص أخرى في كتابه "عشر قصص" (القاهرة، 2006، دار ميريت).
وصل محمد إلى مدينة "تعز" اليمنية تمهيداً للسفر إلى عدن، نهض في الخامسة صباحاً وركب التاكسي متجهاً إلى المطار، حيث ستطير الطائرة في السابعة. "وصلتُ المطار، متضايقاً من كل شيء، ثكنة جيش من صفيح مضلع لونه الداخلي أزرق غامق وسقفه بُني غامق. في الداخل مكتب واحد لركاب اليمنية مكتوب فوقه بخط كبير: "الحديث مع واحد فقط"، أي أن موظف الطيران يستطيع أن يسمع ويخاطب شخصاً واحداً فقط. ومع ذلك كله، كان كافة الركاب يحادثونه. ركاب معظمهم قرويون شعثاء، وموظف الطيران عيناه جاحظتان فوق شارب كث وأسنان مصفرة من كثرة التدخين... جلستُ في الكافتريا أحتسي الشاي والركاب يتجهون نحو الطائرة التي لا تبعد أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً. حوائجهم كانت معهم، بطانيات مستعملة، أقفاص دجاج، ربطات قات، شنط قديمة ممزقة مربوطة بحبال... وأنا بيدي شنطة سامسونايت... الطائرة "داكوتا" صغيرة... مدّ لي المضيف ورقة قال لي إنها قائمة الطعام، ولأن الرحلة قصيرة فهم لا يقدمون أكلاً عليها... قائمة كالحة من كثرة الأصابع التي لامستها. هل يستحق المصنع هذه الرحلة؟ مصنع البيبسي في عدن الذي بناه الوالد مع إحدى العائلات قبل عشرين عاماً، وقامت الحكومة الاشتراكية بتأميمه العام الماضي...".
"كان صديقي أحمد الجبار زميلاً في الجامعة الأميركية ببيروت، من قادة الحزب الاشتراكي في البلاد... كنا نتطلع لغد أفضل ودفن الاستبداد الشرقي إلى الأبد. قال لي زميلي الجبار بالتلفون: تعال سنعالج الموضوع. توقفت في تعز... ولكن ما الذي سأفعله في عدن؟ لا، لم آتِ للتعويض، كم سيعطوننا على أي حال؟".
"ما زالت الغيوم فوقي... الأرض قريبة جداً... وفجأة! فجأة! ماذا؟ شعرت بهواء قوي بارد جداً يلفح رقبتي وأذني اليسري، مددت يدي اليسرى أمسح أذني ورقبتي، لكن الهواء كان مستمراً. استدرت نحو مصدر الهواء البارد، ورأيت باب الطائرة الصغير مفتوحاً للآخر، والهواء ينفح لفّات القات المكومة على الأرض خلفي والدجاج يتقافز ويرتعد من البرد!... رجلاي التصقتا ببعضهما، والقلب هبط إلى أغوار عميقة... إنه الموت... كيف لا يشعر الطيار بالباب المفتوح!". يلعن أبومصنع البيبسي: "لماذا يا رب أتيت لليمن! لماذا أتى الوالد لعدن؟ صرخت بالمضيف الذي كان يحادث راكباً في مقدمة الصفوف، التفت نحوي وهو يرى انفعالي وصراخي... ألم يشاهد الباب المفتوح؟ أو لم يشعر ببرودة الهواء؟! أو لم يسمع قوقأة الدجاج؟ صرخت به ثانية وأنا أرتجف: الباب، الباب... اتجه نحوي، وحين وصل وضع يداً على كتفي وانحنى يسألني: ماذا تريد؟ فلما قلت له، نظر إليّ ساهماً وقال: الباب؟ ذهب ومد يده خارج الطائرة وسحب الباب وقفله بقوة، ودنا مني مبتسماً وقال: هل كنت خائفاً؟ لا تهتم، الطائرة بدون ضغط داخلي، يمكن فتح كافة الشبابيك دون أن تقع. ألا ترى أننا لا نطير عالياً؟".
بانتهاء قصة الرعب هذه، بدأت قصة أخرى: "قال المضيف: هل تريد قهوة؟ قلت شكراً لا أريد. طيب شاي؟ قلت شكراً، فقط أريد أن أصل لعدن. أصرّ على إعداد القهوة والتكريم... غاب عن عيني. بعد دقائق سمعت صفيراً ولاحظت حرارة تأتيني من ناحية أذني اليمنى، كان المضيف على أرضية الطائرة ينفخ بيده "بريموس" لعمل قهوة لي. موقد نار مشتعل! صرخت به: ماذا تفعل؟ رفع رأسه نحوي: "القهوة". كان العفش قريباً منه والنار وإناء القهوة بيده، صرخت به: أرجوك لا أريد قهوة... لا أريد قهوة. كان الفنجان بعد قليل أمام وجهي وكان لابد من أخذ القهوة. أخذت الفنجان وأنا أنوح: يرحم والديك أطفئ البريموس. وضع يده على كتفي والنار تشتعل خلفه: تخاف حتى من البريموس؟".
حطت الطائرة في عدن بعد أن ضربت الأرض بحشرجة واهتزت كدجاجة تنفخ ريشها!
"كان في استقبالي رجلان، عرفت أن صديقي الجبار قد أرسلهما، وعرفت أنه خارج المدينة برفقة رئيس الوزراء، فهو الآن وزير الإعمار! قلت: ولكن الذي أعرفه أن وزير الإعمار هو أكثم اليربوعي، وقد كان زميلنا في الجامعة كذلك. استدار نحوي أحد المرافقين، وكنا في السيارة: لا تسأل عن أكثم... لقد ذهب في الوجبة الثانية... هو وكل مجموعته صدر الحكم بإعدامهم وتم تنفيذ الحكم أول أمس".
"نزلتُ في أحد قصور الضيافة، وبقيت يومين لم يتصل بي أحد، حتى لا أحد، قيل إن التلفون مقطوع عن قصر الضيافة!".
"عاد الجبار من جولته واتصل مرحباً وداعياً للعشاء في منزله، أثناء العشاء بدا أن المجموعة الحاضرة تريد أن أتوسط لها لبناء علاقة مع شركات النفط. ماذا تريد بمصنع البيبسي؟ دبر للوزير علاقات مع هذه الشركات! قاطعه وزير المعادن: لنا ولكم، أليس لعائلتك شركة تسويق نفط؟ بعد العشاء ودعتهم، ولكن الوزير الجبار أصرّ على أن أزور المدينة الأثرية شبام، ووعدني أن يدبر لي مقعداً على الطائرة المغادرة في الغد... لم أجد الجرأة في السيارة مع الوزير على أن أسأله عن زميلنا اليربوعي الذي قيل إنه أعدِم. كان يرأس مجموعتنا في بيروت، كان زعيمنا ورئيسنا وأكثرنا ثقافة، حتى إن نصف كلماته محفوظة من تروتسكي وبقية الأحفاد العظام. لم أسأله عن مصنع البيبسي! ماذا سأقول للوالد حين أعود، لم أرَ المصنع!".
في الصباح كانت أمام محمد تجربة مخيفة أخرى... في نفس طائرة "الداكوتا" الميمونة! "في المطار كان ثمة وفد من الخبراء الرومانيين والمضيف، وتأخر الطيار حتى منتصف النهار، فجن جنون المضيف، وراح يصب غضبه على الفوضى واستهتار الطيارين. وأخيراً فاض صبر المضيّف، فاندفع نحو المجموعة الرومانية وحدثهم بإنجليزية ركيكة قائلاً لهم: "هذه طائرة قديمة من زمن الحرب العالمية الثانية، ولاشك أن أحدكم يستطيع الإقلاع بها"! وللعجب الشديد، يقول محمد، "قال أحدهم وهو يضع نظارة سوداء على عينيه ويسند ساعده على كتف زميله: أنا أعرف. وبعد همهمة وجدل، أخذ المضيف مفتاح الطائرة من مدير المطار وأعطاه للطيار الروماني! ثم قال له: لا تحتاج لخرائط! في شبام مدرج واحد ولا يوجد برج مراقبة... فقط لا تطير عالياً، طر واطئاً واتبع الطريق المعبد".
ثم نظر المضيف إلى محمد قائلاً: "هيا لا تخف، هذا أحسن من طيارينا!". "ارتفعت الطيارة والمضيف يحاول التأكد بين الحين والآخر من أن الطيار لم يخرج عن مساره نحو شبام. ومرة نظر من الشباك، فاندفع نحو غرفة القيادة بسرعة، وبعد قليل خرج وهو يصرخ: لقد تُهنا! هذا الحمار ترك المسار، يشرب ويسكي ويقود الطائرة، قلت له ألف مرة، لا تترك الطريق المعبد، دخل بين الجبال! ليس لدينا بنزين كافٍ".
لا يكمل "محمد" بقية القصة ولا ينهيها... لكنه يبدو أنه سَلِمَ في النهاية! فهو اليوم من كبار رجال الأعمال المعروفين في الكويت ودول الخليج!