التوترات العرقية عقبة أمام الإصلاح في البوسنة
في شهر عادة ما يخلو من النشاط السياسي في البوسنة والهرسك، كان أغسطس الجاري شهراً مشحوناً بالتوترات الإثنية التي لم تشهدها المنطقة منذ عدة سنوات خلت، جراء وقوع عدد من الحالات المثيرة للقلق. ففي الحادي عشر من أغسطس ألحق انفجار قنبلة دماراً كبيراً بقبة "علي عزت بيغوفيتش" الرئيس البوسني السابق. وفي الأسبوع الماضي شقت مجموعة من المسلمين طريقها عنوة إلى كنيسة صربية بُنيت في موقع مسجد بشرقي البوسنة. ولدى مشاهدة صرب البوسنة لشريط فيديو يظهر اغتيال صربي بوسني أعزل على يد جماعة من مسلمي البوسنة أثناء الحرب، سرعان ما تداعت أصوات الصرب منددة بالحادث ومطالبة بمحاكمة جنرال بوسني كبير تحت طائلة اتهامات لها صلة بجرائم الحرب.
وقد صحبت هذه الأحداث وعززتها نبرة التعبير الحاد عن المشاعر الوطنية والعرقية مما يثير قلق ومخاوف المسؤولين الدوليين، في وقت تتأهب فيه البلاد لعقد انتخاباتها البرلمانية والرئاسية، التي من المقرر إجراؤها أول أكتوبر المقبل. وبين هذه الأصوات جميعاً ينسب الصوت الأعلى لـ"ميلوراد دوديك" رئيس وزراء جمهورية صرب البوسنة، مع العلم أنها تمثل حوالى نصف الرقعة البوسنية. ففي الثامن عشر من أغسطس شبَّه "دوديك" العاصمة البوسنية سراييفو التي يسيطر عليها المسلمون بطهران، وألمح مراراً إلى عزمه على انتزاع الاستقلال التام لجمهوريته خلال الصيف المقبل.
يذكر أن "دوديك" أعرب عن ملله وسأمه من سياسات القادة المسلمين، واصفاً إياها بأنها تهزأ من الصرب وتصورهم دائماً بصورة مجرمي الحرب. جاء ذلك في حوار تليفزيوني معه أجرته محطة "بي إن تي في" التي يمتلكها صرب البوسنة. واختتم "دوديك" حديثه بالقول إن كل ذلك قد انتهى الآن، في إشارة إلى اعتزامه اتخاذ "خطوة جديدة" من شأنها تغيير الوضع الحالي. وبعد أحد عشر عاماً من الجهود الدولية الرامية إلى إعادة إعمار البوسنة وتأمين استقرارها، يبدي الدبلوماسيون والمسؤولون الدوليون المعنيون بإعادة الإعمار هذه قلقاً إزاء تصعيد المشاحنات والتحرشات الإثنية وبلوغها ذلك الحد الذي أسفر عن مصرع الكثيرين. وقلقاً من اشتعال دوامة جديدة من العنف العرقي، من شأنها تبديد كل تلك الجهود والعملية السياسية المعقدة الهادفة إلى توحيد البوسنة وجعلها دولة واحدة يمكنها حكم نفسها ذاتياً دون تدخل من المجتمع الدولي. ففي وسع هذه اللغة الحادة الملتهبة المتبادلة بين العرقيتين أن تؤدي إلى تصعيد التوترات والمشاحنات التي قد تشعلل بدورها موجة جديدة من العنف في مجتمع يتوفر فيه السلاح في كل مكان تقريباً، إلى جانب توفر المشروبات الكحولية وطول الصيف وحرِّه الشديد. وذلك هو تحذير "كريستيان شوارز- شيلنج" المندوب السامي الدولي في البوسنة، خلال افتتاحية نشرها في ثلاث من الصحف المحلية البوسنية الأسبوع الماضي.
هذا وقد تعثر التقدم الذي أحرز باتجاه صياغة دستور وطني عام للبوسنة. وكان عدد من المسؤولين الأجانب والساسة المحليين قد عكف على وضع خطة ترمي إلى تبني ميثاق وطني يساعد في إزالة الانقسامات العرقية وتذليل مهمة حكم البلاد. وبعد أشهر عديدة من المفاوضات -كان الوسيط الرئيسي فيها الولايات المتحدة الأميركية- جرى التوصل إلى إبرام اتفاق بين الأحزاب السياسية في شهر مارس المنصرم. غير أن السلطة التشريعية فشلت في السابع والعشرين من أبريل في الحصول على أغلبية ثلثي الأعضاء في البرلمان البوسني، بفارق صوتين فحسب. ونتيجة لذلك فقد أرجئ النقاش اللاحق حول هذا الأمر إلى حين إجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة.
إلى ذلك يقر البوسنيون كافة بارتفاع تكلفة مؤسستهم الدستورية -التي أُنشئت بموجب اتفاقيات دايتون للسلام التي وضعت حداً للحرب عام 1995- وتعقيد هيكلها بما لا يساعد في خدمة متطلبات وحاجة البوسنيين.
يذكر أن تلك الاتفاقيات قد أنشأت نظام حكم فيدرالياً مركزياً بثلاثة رؤساء يمثلون المجموعات العرقية الثلاث، إلى جانب هيئة تشريعية مؤلفة من مجلسين ومحكمة دستورية. ثم هناك كيانان فرعيان أحدهما للصرب والآخر اتحاد المسلمين والكروات يتمتعان ببرلمانهما الخاص ومجلس وزرائهما، إضافة إلى 10 سلطات إقليمية، ولكل منهما قوات أمنه وشرطته وسلطاته التعليمية والصحية وهيئته القضائية. والحاصل أن هذه الشبكة الواسعة من مؤسسات الحكم والتشريع تستنزف ما يقدر بنحو 50 في المئة من إجمالي الناتج المحلي البوسني، وفقاً لتقارير البنك الدولي. لذلك فإن التعديلات الدستورية المقترحة، والتي تحظى بتأييد كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إنما تهدف إلى استثمار قدر أكبر من السلطات والصلاحيات في مجلس وزراء واحد ذي سلطات وطنية عامة، في مقدوره الحد من قدرة مختلف المؤسسات الحكومية على عرقلة جهود التشريع والإصلاح.
نيكولاس واد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" في سراييفو
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"