العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين
دول الخليج محسودة من قبل البعض على وجود "العقد الاجتماعي" بينها وبين شعوبها، وذلك عندما سعت بتوظيف ثرواتها لصالح مواطنيها بتبني نظام طموح للرعاية الاجتماعية ومجموعة من المزايا شملت معاشات مغرية وعلاوات اجتماعية للزوجات والأطفال وإعانات للسكن والتعليم والخدمات الصحية.
وجاء من ينتقد هذا الوضع بقوله: وأدى "العقد الاجتماعي" السائد في دول الخليج إلى تكدس أكثر من 85% من المواطنين في وظائف القطاع العام مما أفضى بالضرورة إلى عدم الاستخدام الأمثل لطاقات هؤلاء.
إذا كانت هذه السلبية الوحيدة لهذا "العقد الاجتماعي" لدى البعض فإن إيجابياته لا حصر لها وبنظرة فاحصة إلى الدول العربية الأخرى يثبت كيف أن فقدان تلك الشعوب لجزء يسير من هذه الميزات في الخليج وهي ليست أقل ثروة منها ولكن لا نعرف إلى أين يتم تصديرها.
فـ"العقد الاجتماعي" الرصين هو الذي عليه المعوَّل، إذا ما ابتليت الشعوب بحكومات تساعد في انتشار الأمراض والأوبئة والأمية بكل أنواعها ومن ذلك طوابير البطالة المقنعة التي تشكو ظلم جدران المكاتب التي تضيق الخناقات عليها وهو ما لم يصل إليه الحال في دول مجلس التعاون ووجود هذا المجلس بحد ذاته إضافة أخرى إلى العقد الاجتماعي الخليجي، فليساهم الجميع في تقوية أركانه وليس السعي لكسر سيقانه وانفراط عقده.
وإذا أردنا لصوت التاريخ المعاصر صدى فليس هناك أقوى من الاعتماد على "العقد الاجتماعي" الذي أرسى دعائمه عالم الاجتماع الفرنسي جان جاك روسو الذي أوقف بعقده كل الحروب الأهلية التي دارت رحاها بين الطوائف المختلفة والتي دامت قرابة ثلاثة قرون، لعبت سياسة القتل دوراً سيئاً في تطاحن الشعوب بدل التلاحم وقت الأزمات، فلقد حل هذا "العقد الاجتماعي" الفريد برداً وسلاماً على (سويسرا الموحدة) بحيث أذاب كافة الكيانات في بوتقة واحدة يضرب بها المثل في الرفاهية والتقدم والحياد في تعاملها مع الشؤون الدولية في أوقات السلم والحرب.
فهذا "العقد الاجتماعي" الدستور المختار من قبل الشعب لإدارة الاتحاد السويسري وفق منظومة يحكمها رئيسان في العام الواحد وبأسلوب دوري قلَّ ما يحدث في التاريخ دون الدخول في صراعات دامية كما نسمع ونرى في العوالم الأخرى.
وبما أن هذا "العقد الاجتماعي" يتميز بتوفير خدمات الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية وغيرها فإنها غدت مؤشرات لرفاه المجتمع وتقليل الفجوات بين الفقراء والأغنياء حتى يتم الحفاظ على الطبقة الوسطى من المواطنين الذين يقفون سداً منيعاً ضد طغيان الغنى على حساب الفقر.
وليس أدل على ذلك من الانتقادات التي وجهت لإدارة بوش الذي لم يكن على صواب عندما قال: إن شعوب العالم تكرهنا بسبب قيمنا وحرياتنا، لأن سمعة الولايات المتحدة تأسست في الخارج على أنها دولة تقوم بتوفير العدالة بين مواطنيها في مجال الفرص والخدمات. ولكن عندما ازدادت الهوة بين الأغنياء والفقراء في أميركا، وتدهور مستوى التعليم، وارتفعت تكلفة الخدمات الصحية، وتضاءلت المعاشات، ورأى العالم كيف تعاملت أميركا بلامبالاة مع مواطنيها من ضحايا إعصار "كاترينا" ورأى السياسات الجديدة الجائرة تجاه الهجرة، فإن ذلك كله قلل من قدر الإعجاب بالعقد الاجتماعي بين أميركا ومواطنيها، وقلص من مصداقية نموذجها في نظر الشعوب الأخرى.
فما يسمى "العقد الاجتماعي" هو البديل الأمثل لتخفيف الاضطرابات والقلاقل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمعات، فكلما قوي هذا الرابط بين الدولة والشعب كان مقياس الرضا عن أدائها العام أفضل فيما لو أن حزباً اعتلى عرش الحكم أو آخر تدحرج رأسه من فوقه.