الجدل مع اليهود في المدينة
هل احترم يهود المدينة عقد "التعايش السلمي" الذي شيد عليه النبي صلى الله عليه وسلم مسألة ترتيب العلاقات مع ساكنتها عند هجرته إليها، وهو العقد الذي تولى بموجبه منصب "الرئيس" فيها؟ الواقع أنه كان لا بد أن يثير تولي الرسول، عليه الصلاة والسلام، مهام "الرئاسة" في المدينة ردود فعل سلبية من جانب فئات كانت لها امتيازات وطموحات متباينة الخ.
- من ذلك رد فعل عبد الله بن أُبَيّ بن سلول الخزرجي رئيس جماعة أطلق عليها القرآن اسم "المنافقين"- لكونهم كانوا يظهرون الإسلام ويضمرون العداء له- وكان حقد ابن سلول على الإسلام راجعاً إلى كون قومه الخزرج كانوا بصدد الإعداد لتمليكه على يثرب، فجاءت هجرة النبي إليها فأفسدت عليه ذلك.
- ومن ذلك أيضاً، وهذا ما يهمنا هنا، تطور العلاقة بين المسلمين واليهود من سيئ إلى أسوأ بسبب موقفهم السلبي من الدعوة المحمدية وتحالفهم مع "المنافقين" تارة ومع مشركي مكة تارة أخرى، خصوصاً بعد أن أخذ النبي عليه الصلاة والسلام في مهاجمة قوافل قريش التجارية التي كانت تذهب إلى الشام. ومعلوم أن المدينة تقع بين مكة والشام.
لقد نشأ وضع جديد عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: فالتنصيص في المرحلة المكية على أن القرآن مصدِّق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، كان ينصرف معناه إلى مجال العقيدة، وبالتحديد عقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل من قبله والتي آمن بها قسم من أقوامهم، وكانوا الأقلية في الغالب، بينما كذب بها وأعرض عنها الآخرون. كان الخطاب القرآني في مكة يتحرك ضمن المجال التداولي السائد فيها: توحيد/شرك، إيمان/كفر.
أما في المدينة فالأمر يختلف. لقد رأى اليهود في الإسلام منافساً لهم فرفضوا الاعتراف به. وقد سجل القرآن في سورة البقرة، وهي أول سورة نزلت في المدينة، عدة مواقف عدائية من جانب اليهود. لقد حاول النبي في بداية الأمر أن يتعامل معهم وفق ما قررته آخر أية نزلت فيهم بمكة، أو في الطريق إلى المدينة، أعني قوله تعالى: "ولا تجادلوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت 46). وهكذا نجد أن أول آية مما نزل في المدينة في شأنهم، تتحدث عنهم وفق نفس المبدأ. قال تعالى مخاطباً إياهم: "يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ (القرآن) مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ" (البقرة 40/41).
غير أن اليهود تمادوا في عدائهم للدعوة المحمدية، متناسين موقفهم السابق منها قبل الهجرة حين كانوا "يستفتحون" بالنبي المنتظر، محمد عليه السلام، أي يستنصرون به ويتوعدون خصومهم من قريش بمكة، بأنه سيكون معهم وسيكونون إلى جانبه! وقد سجل القرآن ذلك عليهم في قوله تعالى: "وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (القرآن) مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ" (البقرة 89). ويواصل القرآن تسجيل مواقفهم العدائية فيدخل معهم في جدل يذكرهم بما عرف عنهم في التاريخ من معاداة أنبياء الله. قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ، قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا، وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ (بما جاء بعده) وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا لِمَا مَعَهُمْ، قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ" (البقرة 91). وأيضاً قوله تعالى: "وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ (القرآن) وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ" (البقرة 101).
وهذا الموقف الذي اتخذه القرآن إزاءهم كان في جملته جواباً على تحدياتهم واستفزازاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام. وفي هذا الصدد تذكر مصادرنا جملة وقائع: منها أن "اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنه ليس نبيّ من الأنبياء إلا يأتيه مَلَك من الملائكة من عند ربّه بالرسالة وبالوَحْي، فمَن صاحبك حتى نتابعك؟ قال: "جبريل" قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا (لأنه فسر حلماً لأحد أنبيائهم بقرب خراب أورشليم). لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك؛ فنزل فيهم قوله تعالى: "قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ؟ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ (القرآن) عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائيلَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ" (البقرة 97/98).
وبما أن اليهود في المدينة لم يكونوا متحدين منسجمين بل كانت بينهم صراعات وخصومات، فقد نقلوا ذلك إلى علاقاتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم يلتمسون إحراجه وإقحامه في ما بينهم من حزازات. وكان عقد الصحيفة الذي وقعه الرسول معهم عند مقدمه إلى المدينة ينص على احتكام سائر سكانها– بمن فيهم اليهود- إلى الرسول في حالة حدوث نزاع بينهم. وفي هذا المجال يروى أن صِداماً حدث بين بني النضير وبني قريظة (قبيلتان يهوديتان) أدى إلى مقتل رجال منهم، فتنازعوا في أمر الدية. ذلك أن قتلى بني النضير كانوا يُعتَبرون أشرافاً ولذلك طالب ذووهم بالدية كاملة، الشيء الذي لم يقبله بنو قريظة الذين كانوا يريدون دفع نصف الدية فقط، فتحاكموا في ذلك إلى الرسول "فجعل الدية سواء". ويقول المفسرون إنه في هذا نزل قوله تعالى: "فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا (اتبعوا دين إبراهيم) لِلَّذِينَ هَادُوا (لليهود)، وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ (يحكمون) بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ، فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنا قَلِيلا. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ" (المائدة 44، واضح أن أن هذه الآية نزلت في اليهود هي والتي تلتها 45. أما الآية 47 فنزلت في أهل الإنجيل).
ويشرح القرآن ما تنص عليه التوراة في مثل القضية التي جاؤوا يحكِّمون النبي فيها فيقول: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا (في التوراة) أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنفَ بِالأنفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ (تنازل عن ذلك للمعتدي) فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ (للمتنازل تنقص من ذنبه) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ" (المائدة 45).
وفي واقعة أخرى روي "أن جماعة من اليهود قالوا: تعالوا نذهب إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه. ثم دخلوا عليه وقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وإنا إن اتبعناك اتبعك كل اليهود، وإن بيننا وبين خصومنا حكومة (مقاضاة) فنحاكمهم إليك، فاقض لنا ونحن نؤمن بك؛ فنزلت فيهم هذه الآية: "وأنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ (القرآن) بِالْحَقِّ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ (التوراة) وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ (رقيبا، أمينا) فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ (اليهود) بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ (لا تنحرف) عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (المائدة 48). وهذا اعتراف صريح بالاختلاف، وأن أحكام التوراة يجب أن تطبق على اليهود، تماماً مثلما تطبق أحكام القرآن على المسلمين.
ويبرز القرآن ما كان يحرك اليهود من حسد للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يتمنون أن يكون النبي الجديد الذي بشرت به كتبهم واحداً منهم يجمع شملهم وينصرهم على خصومهم. قال تعالى: "مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ (القرآن) مِنْ رَبِّكُمْ. وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (البقرة 104/105). وقال أيضاً: "وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارا حَسَدا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة 109).
ومع ذلك فالعمل بالعفو والصفح لم ينفع في إقناع اليهود في المدينة وما حولها بالتزام عقد التعايش السلمي الذي يربط بينهم وبين الرسول. لقد أدت تصرفاتهم العدائية إلى تدهور العلاقات بينهم وبين المسلمين من سيئ إلى أسوأ.