الرسول وترتيب العلاقات بين ساكني المدينة
قلنا في المقال السابق إن من بين آخر ما نزل من القرآن في مكة، والرسول عليه الصلاة والسلام يتهيأ للهجرة إلى المدينة، قوله تعالى: "ولا تجادلوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت 46). هاجر الرسول إلى المدينة، إذن، يحمل معه منهجاً في التعامل مع اليهود من ساكنتها، أساسه الاعتراف بدينهم الذي نزل عليهم والذي يجمعه مع الإسلام الإيمان بإله واحد.
على أن المجتمع الجديد الذي سينشأ في يثرب لم يكن يتألف من فريقين فقط، المسلمين واليهود، فهؤلاء وأولئك كانوا فئات متعددة: مهاجرون ينتمون إلى قبيلة قريش وأنصار ينتمون إلى قبيلتي الأوس والخزرج وقبائل وجماعات يهودية. لقد كان لابد إذن من العمل على ترتيب جديد للعلاقات بين هذه الطوائف كلها.
وبما أن ممثلي الأوس والخزرج كانوا قد بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام في مكة (بيعة العقبة الأولى والثانية– و"الثالثة")، على أن يكون رئيساً عليهم، وكانوا هم الأغلبية، فقد تصرف منذ اللحظة الأولى بعد وصوله إلى يثرب، بوصفه رئيساً على سكانها جميعاً. ومن أجل إرساء هذه الرئاسة على أساس عقد (أو دستور) يتفق عليه الجميع، بادر صلى الله عليه وسلم إلى كتابة "صحيفة" (وثيقة) عرفت بـ "صحيفة النبي"، وهي عبارة عن معاهدة للتعايش السلمي بين المسلمين واليهود في المدينة، إضافة إلى إقرار نوع من "النظام الداخلي" بين فئات المسلمين، خصوصاً في موضوع القتل والدية والعلاقة مع العدو. وفيما يلي ملخص لبنود هذه المعاهدة.
1- تبدأ "الصحيفة" بتحديد هوية الطرف الأول في المعاهدة فتقول: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي (صلى الله عليه وسلم) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس". وهكذا فالطرف الأول في المعاهدة فئتان: مؤمنون ومسلمون. وهذا التمييز كان له معنى خاص في ذلك الوقت، يمكن التعبير عنه باصطلاح عصرنا بالقول: إن "المؤمن" هو من كان إسلامه عن عقيدة (المهاجرون والأنصار)، وأما مجرد "المسلم" فإسلامه "سياسي" (الاعتراف بالدين الجديد وسلطة دولته)، ومن هؤلاء جماعة المنافقين وجماعات أخرى من الأعراب.
- بعد تحديد هوية الطرف الأول في المعاهدة، تعمد "الصحيفة" إلى تقرير"النظام الداخلي" الذي يجب أن تسير عليه الفئات التي يتكون منها هذا الطرف. وهكذا:
- فكل فئة من فئات المهاجرين والأنصار وغيرهم من مسلمي أهل يثرب، تواصل العمل بـ "العرف" الذي كانت تعمل به قبل الإسلام، فيما يخص أخذ الديات وإعطائها، مع التزام المعاملة الحسنة للأسرى والعمل بالعدل في افتدائهم.
- تنص الصحيفة أيضاً على التضامن والتكافل بين المؤمنين بعضهم مع بعض؛ "إن المؤمنين لا يتركون مُفرَحا (مثقلا بالديون) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمنٍ دونه، وأن المؤمنين المُتَّقين (هم جميعاً) على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم (عظيمَ ظلم) أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتُل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصُر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم (إذا أجار الضعيف منهم أحدا فإن ذلك يلزم الجميع). وإن المؤمنين بعضهم موالي (أولياء) بعض دون الناس".
- وإنه من تبعنا من يهود (من أسلم منهم) فإن له النصير والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
- و"إن سِلْمَ المؤمنين واحدة؛ لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم (لا يصالح أحد منهم العدو بمفرده، فالصلح يعقده المسلمون جميعاً: هو من اختصاص الدولة وليس من اختصاص القبيلة)، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا (الخروج للغزو والقتال يكون بالتناوب بين القبائل)، وإن المؤمنين يفيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله (دماؤهم في الجهاد متكافئة، القوي كالضعيف)، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه".
- "وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول. وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدِثا (=لا يحمي جانيا ويحول دون القصاص منه) ولا يأويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل (لا يطالب بأكثر من قيمة الظلم الذي قام به الجاني الذي دخل في حمايته)".
2- ذلك عن الطرف الأول ونظامه الداخلي. أما الطرف الثاني، وهم اليهود، فتقرر الصحيفة في شأنه ما يلي:
- "وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين" (= يتحملون نصيبهم من نفقات الحرب التي يشاركون فيها مع المؤمنين) وإنهم بجميع طوائفهم يشكلون في هذا المجال، مجال الحرب، "أمة" (=جماعة) واحدة مع المؤمنين. وهكذا فـ "إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (= لا يضر) إلا نفسه وأهل بيته. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف"، وهكذا بالنسبة لجميع طوائف اليهود.
- إنه لا يخرج منهم– من اليهود- أحد إلا بإذن محمد (ص)، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك، فبنفسه فتك وأهل بيته، إلا من ظُلم، وإن الله على أبر هذا (= على الرضا به).
- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم (= في الحرب)، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم (= بين المسلمين واليهود) النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يألم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم.
3- إن يثرب حرام جوفُها (القتالُ حرام فيها) لأهل هذه الصحيفة، لأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تُجار حرمة إلا بإذن أهلها" (أهل يثرب). و"إن بينهم (=المتعاقدون بهذه الصحيفة) النصر على من دَهَم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل الناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
4- لا يجوز لمشرك ولا لليهود من أهل يثرب أن يجير أي شيء لقريش، فيجب الامتناع عن مساعدتها بأي شكل كان. "وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها".
5- المرجع في الخلاف هو محمد (ص) سواء كان الخلاف بين المؤمنين والمسلمين بعضهم مع بعض أو بينهم وبين اليهود. وهكذا توجه الصحيفة الخطاب للمؤمنين: "وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد". ثم تؤكد، والخطاب لليهود: "إنه ما كان بين هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله (ص) وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره".
6- وتختم الصحيفة بالتأكيد على أن العلاقات في يثرب يجب أن تبنى على البر وحسن المعاملة والحرص على الأمن فتقول: "وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله (ص)" (جار له كذلك).
ذلك هو عقد "التعايش السلمي" الذي شيد عليه النبي صلى الله عليه وسلم مسألة ترتيب العلاقات مع اليهود في المدينة، فكيف احترم هؤلاء هذا العقد؟