ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ..."
كيف عمل القرآن/الكتاب على إعادة ترتيب العلاقة بينه وبين أهل الكتاب؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من معالجته على مستويين: مستوى القرآن المكي ومستوى القرآن المدني. سيدور الكلام في هذا المقال على المستوى الأول، وذلك بعد التأكيد على الناحية المبدئية التي ينبني عليها جواب القرآن ككل.
إذا نحن أردنا بيان علاقة القرآن بالكتب السماوية الأخرى، كما يحددها القرآن نفسه، وجب الرجوع إلى مطلع سورة الزخرف حيث نقرأ قوله تعالى: ""حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الزخرف 1-4).
ومعنى ذلك:
1- أن القرآن يختلف، على مستوى اللسان، عن الكتب السماوية الأخرى من حيث إنه نزل بلسان عربي مبين، وهذا النوع من الاختلاف يعم الكتب السماوية كلها وفاقا مع قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (ابراهيم 4). والاختلاف هنا يشمل ليس "لسان القوم" بوصفة لغة فحسب، بل يشمل أيضا "معهود" القوم، على مستوى ما هو ظرفي؛ كالأعراف والشرائع. وذلك وفاقا مع ما سيقرره القرآن المدني– لاحقاً- في قوله تعالى: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ (اليهود) بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (المائدة 48).
2- أن وراء هذا الاختلاف على مستوى ما هو "متغير" -أي التاريخ البشري- كاللسان والشرائع والمناهج، اشتراكا على مستوى "التاريخ المقدس"، الذي لا يحتويه زمان ولا مكان، أعني ما عبر عنه القرآن الكريم بـ"أم الكتاب". ولتشخيص هذا المعنى يمكن القول مع جل المفسرين إن المقصود بـ"أم الكتاب"، هو "اللوح المحفوظ" الذي نقشت فيه النسخة الأصل التي لا تتغير، والتي منها تتفرع نسخ الكتب السماوية التي تختلف باختلاف لغات الأقوام الموجهة لهم وظروفهم الزمانية والمكانية. ومن هذه النسخ القرآن/الكتاب الذي يحتل مكاناً رفيعاً في "اللوح المحفوظ": "وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ".
هذا على مستوى "الجوهر". أما إذا أردنا تتبع المسلك "التاريخي" الذي سلكه القرآن المكي في إعادة ترتيب العلاقة مع أهل الكتاب فعلينا أن نرجع إلى سورة "الأعراف" التي أعلنت لأول مرة- كما بينا ذلك في المقال السابق- أن القرآن "كتاب" ككتب أهل الكتاب نزل على محمد بن عبد الله النبي الأمي (العربي).
نقرأ في هذه السورة (ورتبتها 39 حسب ترتيب النزول)، أن بني إسرائيل الذين بعث الله إليهم موسى لينقذهم من طغيان فرعون ويعود بهم إلى الأرض الموعودة (فلسطين)، قد صنعوا صنماً (عجلا من ذهب)، وهم في طريق العودة، وذلك عندما تأخر عنهم موسى الذي ذهب إلى ملاقاة ربه لأخذ "الألواح" (الوحي الذي خصه الله به). وعندما عاد ووجدهم يعبدون "العجل" غضب غضباً شديداً، ثم عاد فطلب من الله المغفرة لهم: "قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ! أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا؟ إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ، تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ. أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ، إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ" (الأعراف 155- 156).
ويأتي الجواب الإلهي في السورة نفسها، قَالَ تعالى: "عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ". وهذا مفهوم، لأن رحمة الله كقدرته لا يحدها حد؛ ولكن ليس "كل شيء" يستحق رحمة الله هكذا بإطلاق، بل لابد من شروط. فإبليس مثلاً قد أخرجه الله من الجنة لأنه عصا أمره وامتنع عن السجود لآدم وأصرّ على غواية بني آدم إلى يوم الدين، فهو لا تسعه رحمة الله. أما آدم نفسه فقد نسي وارتكب خطيئة، ولكنه طلب التوبة فتاب الله عليه، فاستحق رحمة الله. وأما "بنو آدم" فهم يستحقون رحمة الله فعلاً، ولكن ما داموا لا يتخذون من الشيطان ولياً لهم، وهذا يخص قوم موسى الذين انحرفوا فعبدوا العجل فاستغفر موسى لهم. أما من أتى بعدهم من اليهود فرحمة الله بالنسبة لهم مشروطة بشروط بَيّنَها قوله تعالى: "فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ".
هذا بالنسبة لليهود قبل قيام الدعوة المحمدية. أما بعد قيامها فرحمة الله مكتوبة فقط لصنف منهم، هم: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ (الشعائر الدينية الثقيلة) الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ (وقّروه) وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ" (الأعرف157).
ذلك، لأن أهل الكتاب الذين وسعتهم رحمة الله من قبل، بفضل استغفار موسى لهم واتِّباعهم ما جاء به من أوامر ونواه، "فخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى" أي الدنيء (الأعراف 169). وبعبارة أخرى لقد انحرف اليهود بعد موسى وعليهم الآن أن يرجعوا إلى أصل الدين، وهو دين إبراهيم شيخ الأنبياء الذي قام محمد بن عبد الله اليوم بالدعوة إليه. وهذا الدين- دين إبراهيم- الذي هو "الدين القيم"، دين الفطرة، هو الدين الذي اختاره الله للناس جميعاً، وهو الذي كُلِّف محمد بن عبد الله بتبليغه للناس كافة. ذلك قوله تعالى، مخاطباً نبيه الكريم، مباشرة بعد الآيات السابقة: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، لا إِلَهَ إِلا هُوَ، يُحْيِ وَيُمِيتُ. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (الأعراف 158).
وتضيف السورة مبينة أن جماعة من اليهود لم ينحرفوا بل بقوا متمسكين بما في التوراة، وهم اليهود الذين نصروا المسيح ورفضوا التثليث. وقد بقي من هذا التيار الذي قاده أريوس أتباع ودعاة إلى زمن الدعوة المحمدية فكانوا من المبشِّرين بها، كما بينا في مقال سابق. ذلك قوله تعالى مباشرة بعد الآية السابقة: "وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وبه يَعْدِلُونَ" (الأعراف 155/159).
بعد سورة الأعراف تأتي سورة النحل (ورتبتها 70 في ترتيب النزول) لتفصل القول في علاقة النبي الأمي بشيخ الأنبياء إبراهيم، فنقرأ قوله تعالى: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (...) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ (طقوسه الشاقة) عَلَى الَّذِينَ (اليهود) اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل 120- 125).
الكتاب الذي جاء به النبي الأمي من جنس كتب أهل الكتاب، يقرر دين إبراهيم، شيخ الأنبياء. أما ما اختلف فيه أهل الكتاب، كاختلافهم في يوم "السبت" وما فرض عليهم فيه من طقوس وشعائر، فذلك أمر يخصهم وحدهم، وسيحكم الله بينهم يوم القيامة. ولذلك فلا ينبغي لك يا محمد أن تدخل معهم في جدال عقيم، بل تعامل معهم على أساس هذا المنهج: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ".
ذلك ما تقرره أيضا سورة العنكبوت، وهي آخر سورة نزلت في مكة (أو قبل الأخيرة). وذلك عندما كان النبي عليه الصلاة والسلام يتهيأ للهجرة إلى المدينة حيث تقيم جماعات من اليهود، الشيء الذي سيطرح مسألة ترتيب العلاقة بينهم. يقول تعالى في هذه السورة: "ولا تجادلوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت 46).
ذلك عن المنهج الذي عرضه القرآن المكي على مستوى ترتيب العلاقة مع أهل الكتاب، والمقصود اليهود أساسا، أما النصارى فالجدل معهم يختص به القرآن المدني، لأسباب سنبينها في حينه.